في مستهل كتابه القيّم "هل للإنسان من مستقبل؟"
يستشهد الفيلسوف البريطاني برتراند راسل بمقولة "ماريو فارغاس يوسا"، الكاتب والسياسي والبروفيسور البيروفي، حين يقول: "ملعون ذلك الذي اخترع الحرب".
ليس سرا أن المرء يتذكر "راسل" في هذه الأيام على نحو خاص، لا سيما بعد أن شهد العالم من جديد، مرارة الحروب، وفداحة أكلافها، وكيف أن الأبرياء هم من يدفعون أثمانها الباهظة.
ما يجري بين روسيا وأوكرانيا، ومن غير لحظة رشد أو وعي من قبل الناتو، يستدعي أن نقلب أوراق "راسل" من جديد، لا سيما وهو الفيلسوف الكبير الذي ينحدر من أسرة عريقة، وكيف نزل إلى الشارع ليقود الدعوة إلى السلام وإنقاذ البشرية من المصير المظلم الذي يعده لها تجار الحروب.
لم يستنكف "راسل" أن يدفع الثمن، فقد دخل السجن في سبيل دعوته إلى السلام.. فأثبت بذلك أن المهمة الحقيقية للفيلسوف هي أن يكون في الشارع مع الناس، يتعرف على أمانيّهم وآمالهم ثم يذود عنها بكل ما يملك من قوة.. لقد انقضى العهد الذي كانت فيه الفلسفة من مستلزمات الأبراج العاجية.
هذا الكتاب هو آخر عمل أصدره "راسل" قبل أن يفارق الحياة عام 1970 عن عمر يقارب المئة عام، ويحمل في طياته إدانة صريحة لأولئك الذين يكدسون أسلحة الدمار الشامل ويتلاعبون بمصير البشرية.. ويحمل الكتاب دعوة قوية للتشبث بالحياة والدفاع عنها.
هل يجيء خيار الكتابة عن "راسل" ومؤلَّفه هذا على نحو عشوائي؟
بالقطع ذلك ليس كذلك، وإنما الأمر يرجع للحديث الدائر، ولو بصوت خافت في الكواليس، حول احتمال استخدام أسلحة نووية تكتيكية، صغيرة المفاعيل، ضمن المواجهات العسكرية القائمة والقادمة بين روسيا وأوكرانيا، ما لم يتغلب صوت العقل وترتفع راية الحوار بين دول الجوار، بهدف الحفاظ على أرواح البشر وممتلكاتهم.
الدعوة إلى استخدام الأسلحة النووية تكررت أكثر من مرة طوال الشهر ونصف الشهر المنصرمين، فقد قال الروس إنهم لن يستخدموها إلا إذا شعروا بأن هناك "تهديدا وجوديا لدولتهم"، واليوم ها هي صيحة نووية جديدة تتردد في الأصداء.
يعنُّ لنا التساؤل: "هل استخدام الأسلحة النووية على الصعيد التكتيكي يختلف عنها على الصعيد الاستراتيجي؟
حُكما كلاهما شر، بل إن الكارثة التي لا يتنبه لها النفر الكثير، تتمثل في أنه حال استُخدمت القنابل الصغيرة منها، قد يشبه الأمر كرة الثلج، والتي تؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار جبل الثلج برمته، والدخول من ثم في عالم الحرب النووية الكبرى بمعالمها وملامحها التي تقضي على البشرية قضاء مبرما.
يتساءل "راسل" بين دفتي كتابه هذا: "هل من الممكن لمجتمع علمي أن يوجه نفسه توجيها غير منظور إلى الدمار؟
طرح "راسل" علامة الاستفهام المتقدمة في أوج صدام الحرب الباردة، وقد اعتبر أن السؤال بسيط، بيد أنه حيوي للغاية، وقد خُيل إليه ذات مرة أنه يسير في طرقات لندن مارّا بمتحف "سان بول" البريطاني ومجلس البرلمان والمعالم الأخرى للمدينة الأوربية العريقة، ويراها قد تحولت إلى أكوام من الرماد تُدفن الأجساد تحتها ومن حولها.
قبل خمسة عقود نادى "راسل" بأن هناك مشكلة نووية عالمية، وأنه على البشرية مواجهتها، لا في الريف والمدن فحسب، بل في طول العالم المتحضر وعرضه، كاحتمال حقيقي واقعي.
لم يعاصر "راسل" تسعينيات القرن الماضي، حيث لاحت في الأفق فرصة ذهبية للخلاص من الأخطار النووية المهددة للعالم، غير أنه من الواضح أن البشرية مجبولة على الشقاء لا الهناء، وعلى الشدة والفراق، لا الراحة والوفاق، فعاد شبح المخاوف النووية يهدد الجميع مرة أخرى.
ولعل من متناقضات القدر أن الحرب الروسية الأوكرانية قد فتحت الباب واسعا لكثير من الدول حول العالم، بحثا عن حيازة السلاح النووي.
ولعله من المثير أن "راسل" في صفحات كتابه هذا قد وضع يده على موضع الجرح الحقيقي، ذاك المتفاقم الآن، والذي يتهدد العالم بحرب لا تُبقي ولا تذر.
"راسل" رأى أن هناك مشكلة غير مفهومة فهما كافيا في الدوائر الغربية، وهي أن الروس يشعرون دائما، وفي شعورهم -على حد تعبيره- نوع من الصواب، أنه حال تضارب المصالح، ستقف روسيا وحدها في جانب والدنيا جميعها في الجانب الآخر، ولقد حدثت في مسائل عديدة أن وجدنا روسيا في ناحية وثلاث أو أربع دول أخرى في الناحية الأخرى.
ما أدركه برتراند راسل قبل خمسة عقود ونيف، لم يستوعبه من أسف الرئيس الأمريكي "بايدن"، الذي يطالب برحيل "بوتين"، ولا السيناتور النافذ ليندسي غراهام، الباحث عن "بروتس روسي" للخلاص من بوتين.
"راسل" ينصح من أجل سلام العالم أنه "يجب أن يكون هناك ذوق في المعاملة خلال السنوات القادمة حتى يمكن تحقق السلام والتعاون العالمي".
هل يتوجب على قادة الغرب إعادة مراجعة أوراق برتراند راسل مرة جديدة من أجل سلام العالم ولتجنب الصراع النووي؟
ربما يكون على الرئيس "بايدن" أيضا مطالعة كتاب المفكر الياباني الأصل، الأمريكي الجنسية، فرنسيس فوكوياما: "الهوية.. مطلب الكرامة وسياسات الاستياء"، قبل أن يشتعل العالم نوويا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة