الهبّة الغربية في وجه روسيا بعد تفجر النزاع مع أوكرانيا تولّد استفهامات متواترة حول مراميها وأهدافها، كما تضغط على تفكير الإنسان بحثا عن بواعثها وحيثياتها.
هذه التوطئة لا تعني إدانة طرف وتبرئة آخر في هذا النزاع، إنْ هي إلا محاولة تقصٍّ لفهم محددات السياق السياسي للعقل الأوروبي الراهن وتجلياته حيال النزاع الروسي-الأوكراني المستعر.
العقل الأوروبي، الذي أسهم عبر حقب التاريخ في صناعة الحضارة الإنسانية وازدهار الإنسان وتقدمه ورفاهيته، وهذه من المسلمات والبدَهيات التي يلتقي عند حقيقتها الجميع، يضع نفسه اليوم في دائرة الاستفهام.
فإذا كان من اليسير فهم وتفسير الاندفاعة الأمريكية ضد روسيا، مستغلة الأزمة الأوكرانية، فليس من السهولة تقبُّل ردات فعل الغرب وسلوكياته غير السياسية وغير الاقتصادية ضد موسكو دون تمحيص وتدقيق، وذلك لتفكيك التشابك الغربي مع الآخر، وتحليل التناقض مع الذات في مواقفه وقد تجاوزت حدود السياسة ومعاييرها.
لا بد من الاستعانة بمحددات ثلاثة: هي التاريخ ومساراته، والنزعات الكامنة في اللا شعور الغربي عامة، والبيئة السياسية الحاضنة للمجتمعات الغربية وثقافاتها التراكمية.
سلسلة الإجراءات الأوروبية العقابية تجلت في مجالات عديدة بعيدة كل البعد عن دهاليز السياسة وكواليس الدبلوماسية.. طالت الأنساقَ الثقافية والرياضية والفنية والأكاديمية، ولم تسلم منها فنون الإعلان والدعاية والترويج في قطاعات التسوق.. فهل تعكس هذه الإجراءات مواقف الشعوب الأوروبية أم أن النُّخب الحاكمة تفرضها خدمة لغايات أخرى من بينها استرضاء الإدارة الأمريكية؟
السؤال الأهم: أين الرأي العام الأوروبي من قرارات نُخَبِه الحاكمة عندما تُلغَى محاضرةٌ عن الكاتب الروسي دوستويفسكي في جامعة ميلانو الإيطالية فقط لأنه روسي؟
أو عندما يُفسخ عقد عمل قائد الأوركسترا الروسي فاليري جيرجيف في ألمانيا فقط للاشتباه بأنه مؤيد للرئيس الروسي؟
وكذا الأمر بالنسبة للرياضة وغيرها من القطاعات.. يبدو أن ثمة مخزوناً تاريخياً كامناً في العقل الغربي يغذي مثل هذه النزعة الاستعلائية الانتقامية لدى السياسيين وقادة الرأي ولدى النُّخب الأوروبية ضد روسيا بمختلف مكوناتها، مستحضرين من الأطوار السابقة لأشكال الحكم الروسي، الإمبراطوري والقيصري والسوفييتي، وتحولاته خلال قرون خلت، وعلاقاته مع العالم على مر العصور، بعضَ المواقف والمنعطفات الكبرى المؤلمة بالنسبة للذاكرة التاريخية الأوروبية بأثر رجعي، حيث بدَوا كمن يتحيّن الفرصة للانقضاض على "الغريم أو العدو" لسحقه بجريرة ماضٍ صار في بطون كتب التاريخ وحسب.
قبل تفجُّر النزاع الروسي-الأوكراني ميدانيا، بدا الواقع الموضوعي القائم بين موسكو وكييف، من وجهة نظر الأوروبيين، معيارا مقبولا للعلاقات بينهما.. لم يتخذ الغربيون مواقف استفزازية ولم يسلكوا سبلا لابتزاز موسكو.. أظهروا حرصا على تمسكهم بمصالح بلدانهم وشعوبهم، وتقديراً لمصالح الآخرين.. قدموا بعض المبادرات الخجولة لتلافي تطور النزاع إلى مواجهة.. وحدها الولايات المتحدة امتطت صهوة التصعيد، مستخدمة صيغة الجمع الأطلسي، وزجّت بها في أتون مواجهة دبلوماسية ضاغطة ومستفزة، وعملت ما بوسعها على إحياء النزعات المعادية لروسيا في عموم القارة الأوروبية وخارجها.
مع الرصاصة الأولى واندلاع النزاع، بدأت تطفو على السطح نزعات "عسكرتارية" لدى معظم دول القارة بذريعة التحسب لعدوان روسي، مترافقة مع ضخ إعلامي واسع، وتكميم لأفواه جميع المنابر الإعلامية الروسية العاملة بشكل قانوني على أراضي القارة الأوروبية.. ما مبررات هذا التحول المفاجئ في الموقف الغربي ضد روسيا؟ وهل يصحّ التكهن بأن الأوروبيين قبل هذا المنعطف كانوا مسكونين بهواجس القلق من روسيا وظلوا يكتمون مخاوفهم حتى جاءتهم الفرصة المرجوة للتعبير عن ذلك وترجمته عمليا؟ وماذا يعني انقلابهم على أعقابهم؟.. من الواضح أن العقل السياسي الأوروبي وجد نفسه في الأزمة الأوكرانية أمام تحدٍ ذاتي، مثلما أصبح الساسة والنخب الغربية في مواجهة سردياتهم ومروياتهم عن السلام العالمي والاستقرار والازدهار والديمقراطية.. استحضروا بعض محطات الصراع مع روسيا من التاريخ البعيد والقريب فشكلوا تصوّراتهم.. قدموا هواجسهم على عقلانية كانوا روّادها يوما.
في الصراعات الكبرى تقفز العداوات المتأصلة بين الشعوب إلى حيز الوعي، بعد أن تكون قد اختمرت في اللا شعور وتحولت إلى رواسب راكدة مؤقتاً، وما أن يجري تحريكها وتحفيزها حتى تأخذ أشكالا عنيفة من ردات الفعل، بحيث يصبح التفكير والسلوك محصوراً ضمن سياقه التصعيدي أسيراً لنزواته.. إنه انتصار نزعة وهزيمة عقل لأن الجميع خاسرون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة