حين أدرك الغرب قوة الصين الصاعدة وانعكاسها على هيكل النظام الدولي، مع تمددها في أسواق أفريقيا وأمريكا الجنوبية باتفاقات طويلة المدى، بدأت تتحرك لعرقلة هذا التمدد.
هذه الحقيقة حين ظهرت واضحة، خصوصاً بعد أزمات مالية عالمية منذ نهاية 2008، دفعت القوى الغربية، خاصة أمريكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، لمحاصرة النمو المتسارع للاقتصاد الصيني، وفك الارتباط بينه وبين روسيا، ذلك الترابط الذي يؤشر إلى بروز حلف استراتيجي يهدد نظام القطب الواحد، المتمثل في الولايات المتحدة، وخلفها الانفراد الحضاري الغربي في العالم.
هنا برزت الرؤية الاستراتيجية، التي تهدف إلى نقل منطقة التوتر الأشد سخونة من الشرق الأوسط إلى وسط آسيا، مع الحفاظ على كمّ من التوترات في العالم العربي لتحقق بعض المصالح الاستراتيجية الكبرى.
يأتي هذا في إطار التحول الاستراتيجي الكبير للإدارة الأمريكية من أوراسيا/شمال الكرة الأرضية إلى المحيط الهادي، وذلك بعد أن صارت المصالح الكبرى للعالم الغربي تتمثل في احتواء الصين وروسيا والهند، تلك القوى التي ربما تزيح العالم الغربي -بما فيه أوروبا وأمريكا- من الصدارة، وتعيد قيادة العالم إلى آسيا بعد أن انتقلت منها منذ قرنين من الزمان مع الثورة الصناعية إلى أوروبا وامتداداتها في أمريكا الشمالية.
في هذا السياق جاء الانسحاب الأمريكي المتعجل والعشوائي من أفغانستان على أمل خلق بؤرة توتر جديدة تجتمع فيها الحركات الإرهابية لإرباك الصين والهند وروسيا.
وفي السياق نفسه، كان التدخل الأمريكي في أفريقيا، حيث تم نقل تنظيمي "القاعدة" و"داعش" الإرهابيين إلى المناطق الأفريقية التي توسعت فيها الاستثمارات الصينية، لخلق بؤر توتر أخرى تعرقل تمدد المصالح الصينية في مناطق مثل دول الساحل "مالي وبوركينافاسو والنيجر وتشاد"، من هنا أيضا يمكن فهم تعدد الانقلابات العسكرية في دول الساحل وغرب أفريقيا، خصوصا تلك التي انخرطت قياداتها في علاقات عميقة مع الصين، مثل الرئيس الغيني، ألفا كوندي، الذي تم الانقلاب عليه في 5 سبتمبر 2021 بعد توقيعه عقد تصدير طويل الأمد لخام الألومنيوم مع الصين.
ثم جاءت الأزمة الأوكرانية لتربك التحول الاستراتيجي الأمريكي الكبير من أوراسيا إلى الباسيفيك، وتعيد الولايات المتحدة وأوروبا إلى البيت الأوروبي، ويصبح الهمُّ الأكبر لأمريكا وأوروبا تأمين حدود حلف شمال الأطلنطي، والحفاظ على مصادر الوجود مثل الطاقة والغذاء، ويكتشف العالم أن القطب العالمي الأوحد غير قادر على ممارسة دوره، حيث فَقَدَ قوة الردع، التي كان يجب أن تمنع روسيا من دخول نزاع عسكري مع أوكرانيا، فيما فقد هذا القطب القدرة على المواجهة المباشرة في هذا النزاع، واكتفى بأضعف الوسائل -الحصار الاقتصادي والإعلامي والثقافي والرياضي- وحتى في هذه كانت الآثار السلبية للعقوبات الغربية على روسيا أشد تأثيرا على اقتصادات أوروبا وأمريكا بدرجة تجعلها سلاحا ذا حدّين لا يمكن استخدامه لفترات زمنية طويلة.
في ظل كل هذا يتزايد التقارب الروسي-الصيني، وتتوطد العلاقات بينهما، ويتم الإعلان من وزيري خارجية الدولتين أن النظام العالمي أحادي القطب "قد انتهى"، وتشرع روسيا والصين في التحضير لعالم "متعدد الأقطاب"، سوف تكون بداياته بفقدان الدولار الأمريكي هيمنته الاقتصادية على العالم، ومعها يفقد الاقتصاد الأمريكي تفرده وصدارته، ويُفتح المجال أمام قوى دولية صاعدة، مثل الصين وروسيا والهند، لتجد لها مكانا في قمة النظام العالمي، ومعها سوف تسعى أوروبا إلى الاستقلال العسكري عن الولايات المتحدة الأمريكية، وتشكل جيشا موحدا، وبذلك تكون أوروبا قطبا عالميا مستقلا وليس تابعا للولايات المتحدة.
في يوم الأربعاء 30 مارس 2022، أعلن وزير خارجية الاتحاد الروسي، سيرجي لافروف، في مدينة "تونشي" بشرق الصين، أن كلا من الصين وروسيا يعتزمان السير قدما نحو "نظام عالمي عادل ومتعدد الأقطاب".
وقال "لافروف": "نحن مهتمون بأن تتطور علاقاتنا مع الصين بشكل ثابت ومستمر، وهو ما اتفق عليه زعيما البلدين، بأن روسيا والصين وشركاءهما سيتحركون معا نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب وعادل، بناء على نتائج المرحلة الخطيرة التي يمر بها تاريخ العلاقات الدولية".
وأكد "لافروف" مرة أخرى أننا "نمر بمرحلة خطيرة للغاية في تاريخ العلاقات الدولية. وأنا مقتنع بأنه في أعقاب هذه المرحلة، ستتضح ملامح الوضع الدولي بشكل كبير وسنتحرك معكم، ومع شركاء آخرين في الرأي، نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب وعادل وديمقراطي".
وإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد شهدت نهاية الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، وظهور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب تقوده الدول الاستعمارية، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وإذا كانت حرب السويس 1956 نهاية لنظام عالمي متعدد الأقطاب تقوده الدول الاستعمارية الأوروبية بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وولادة لنظام القطبية الثنائية، الذي قادته الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وإذا كانت حرب أفغانستان خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي نهاية لنظام القطبية الثنائية عام 1991، وولادة لنظام القطب الواحد، الذي انفردت به الولايات المتحدة، فإن النزاع الروسي-الأوكراني 2022 سيكون نهاية لنظام القطب الواحد، وولادة لنظام متعدد الأقطاب، سيكون فيه لروسيا والصين والاتحاد الأوروبي موقع قيادي بجانب الولايات المتحدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة