لقد كسر الآباءُ المؤسسونَ والجيلُ الأولُ، في كلِّ الدولِ، جدرانَ اختلافاتِهم بحكمة؛ وقبلوا تناقضَاتهم بتسامٍ.
أصعب سؤال يمكن أن تتعرض له يأتيك من طفلك الذي لم يتجاوز المرحلة الابتدائية عندما يرمي قنبلته - سؤاله، العميق، البسيط منتظراً إجابة، تزيل حيرته، وتهدئ من روعه، وتخفف من صدمته: هل هؤلاء الذين ينحرون العشرات ويتفنّنون في تصوير بشاعة تصرفاتهم، مسلمون كما يقولون؟! هل الإسلام دين قتل ونحر؟ قرأ علينا الإمام في الصلاة: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين». أليس المقصود أن الله يخبر نبينا صلى الله عليه وسلم، بأنه أرسله رحمة للعالمين؟ قال لنا المعلم إن العالمين كلُّ البشر، فالرسول أُرسل رحمةً لكل الأجناس، وليس لفئة خاصة، ولا دين واحد.
هل ما تعلمناه في المدرسة كان خطأً؟!
ليس غريباً، أن تتصبَّب عرقاً، من أسئلة صغيرك المنطقية، ولكن ما أصعب الإجابة عنها.
إن قلت للصغير: إن هؤلاء مسلمون، إذ هم يقاتلون تحت رايات تحمل شعارات إسلامية بل وقرآنية، ومَن ذا يشكك في التنزيل؟ لكنك بعد جوابك الأخير، ستستدرك، لعل الاستدراك يقلل من آثار الدمار الذي يستعد ليلحق بأفكار ابنك الصغير.
استدراكك سيركز بالضرورة على أن تصرفهم هذا؛ القتل والنحر الذي يمارسونه ضد المخالفين لهم، ما هو إلا خروج عن تعاليم الإسلام وتحريف لها، وبالتالي فهم لا يفهمون الإسلام جيداً.
وإنْ قلت إنهم غير مسلمين، فكيف يسمون أنفسهم الإسلاميين، ولا يتحدثون إلا بالقرآن والأحاديث النبوية؟!
لقد كسر الآباءُ المؤسسونَ والجيلُ الأولُ، في كلِّ الدولِ، جدرانَ اختلافاتِهم بحكمة؛ وقبلوا تناقضَاتهم بتسامٍ، بل وصهرُوها في بوتقة واحدة توحِّد المجتمـعَ برضـا وتماسكٍ طوعيّ. هذه الطوعية والرِّضا هما الضمانُ المؤكدُ. ونحنُ مطالَبونَ بأن نُوَرِّثَ هذا الرِّضا لأبنائنا وأحفادِنا
والحقيقة أنك لا تستطيع أن تحل إشكاليته الذهنية بأن تجيبَهُ بشرحِ مفهوم التسامحِ. لكنكَ إن وُفِّقْتَ فستهتدي لجعلِ المفهومِ مبسطاً يسيراً يَسهُل على الصغارِ استيعابه.
يُعاِلج التسامحُ الكثيرَ من القبـحِ في هذا العالم، فهـو شقيقُ الحبِّ والسعادة، ورفيقُ الالتزام بالفضائلِ والمُثلِ، وركنُ الإيمانِ بالعيشِ المشترك، والدواءُ الذي يعالجُ ذاكرة الحروبِ، والعنفِ، والكراهية. يَقوَى بالذِّكرِ المتكررِ، والممارسة الراشدة المبنية على إرثٍ قويٍّ. ولكن، لا يمكنُ تأسيسهُ وترسيخهُ، إلّا بفعلِ الكتابة، والتوثيقِ، والنقاشِ حول هذا المفهومِ، وأبعادِهِ، ونماذجِهِ، وسلوكياتِهِ.
سؤال طفلك؛ لا بد للإجابة عنه، الإجابة أيضاً عن أسئلة أخرى: فكيف بدأَ التسامحُ، ولِمَ كانَ، وأينَ وصلَ؛ ولماذا نطرحُ السؤالَ الآن؟ لقد دمَّرَ التطرفُ ما تبقَّى مِن إنسانيةٍ في هذا العالم؛ قُطِّعت بسببه الرؤوسُ، واستهدِفَت الأديانُ فهاجَر أهلها مجبَرين عن بلدانها، وبقي المتطرفونَ يبحَثون عن مزيدٍ منَ الضحايا والسبايا، كلّ ذلك وقعَ في بلداننا. والأمرُ المحزنُ أنَ القبحَ الذي مارسه هؤلاءِ، جرى وهُم يدّعونَ زوراً أنّهم يفعلونَه بأمرٍ مِن دينِنا، متلبسين كذباً بلبوس ثقافتنا، ولم يكن مِن بيننا مَن يهتم بوقفِ هذا الاعتداءِ الذي لا يوقِفهُ شيءٌ سوى إعلان حقيقة أصالة موضوعِ التسامحِ عندنا.
الثقافة العنيفة التي تعيشُ على التطرفِ لَم تكن اختراعَنا وحدَنا؛ فكتابُ البشرية المفتوحُ حافلٌ بنماذجَ فظاعاتِ متشددين مارسُوا العنفَ باسم الدينِ والدولة والحقِّ، ولكنّ ذلكَ انتهى بفعلِ الاتِّعاظ والأسئلة، وانتهت مراجعة تجاربهم إلى الإقرارِ بأهمية إتاحة المجالِ للعيشِ المشتركِ، وترسيخِ حالة من السلمِ تتمُّ حراستها عبرَ مجموعة قيمٍ يأتي التسامحُ على رأسِها.
لم يتمّ ذلك الانتقالُ من ثقافة التطرفِ إلى واقعِ السِّلمِ بينَ يومٍ وليلة، ولا في مجالٍ دينيٍّ أو سياسيٍّ أو تشريعيٍّ فحسبْ، بل سارَ في مساراتٍ متباينة، وبخطواتٍ متعددة، وبمراحلَ مختلفة، وكانت تكلفتُهُ كبيرة وباهظة. وتباينتِ الأدواتُ التي رسّختِ الواقعَ الجديدَ بينَ: القصة والرواية، والفن والموسيقى، حتى صارَ المفهومُ والواقع على حالته التي نراها اليومَ، واستمرت الأدواتُ والمفاهيمُ متحركة غير جامدة، ومتطورة لا متكلسة.
يشبِهُ تاريخُ التسامحِ الأوروبيّ واقعَنا المعاصرَ في الشرق الأوسط. ولأنَّ ذلكَ الإنجاز الأوروبي بُني على الاتِّعاظِ منَ الحروبِ الدموية باسم التطرفِ، فقد تقاتل القوم قتالاً عنيفاً دموياً، حتى قُطعت الرؤوس، ومُزقت الأجساد، وسالت الدماء أنهاراً، وقُتل عشرات الملايين من البشر، ولم يتوقفوا حتى ملّوا من القتال، واكتشفوا أن لا نهاية لدوامة العنف، فهي ككرة الثلج التي تبدأ صغيرة، فتستهين بحجمها بدايةً، ثم تتحول إلى كرة ضخمة تسحق كل مَن تمر عليه.
توصل العقلاء من البشر إلى حقيقة لا مناص منها، وهي أن علينا، وجوباً، نحن شركاء هذا الكوكب: أن نتفاهمَ، ونتعايشَ، وننبذَ الكراهية والتطرفَ، ضمنَ المساواة التي يُحققُها التسامحُ، وإذا ترسخ التسامح انتشر الاستقرار والنماءِ والازدهارِ لدى الأمم المتعددة في أصقاعِ الأرضِ.
إن من المهم أن نعِيَ أن التسامح منتج إنساني أسهم في خلقه وتراكمه وتطويره البشر كافة، بأديانهم ومللهم ونِحَلِهم وأعراقهم، فهو ملكٌ لكلِّ النّاس ولتاريخِ الوعي البشري أجمع، لا يحتكره أحدٌ أو تتعصّب له جماعة كأنه منتجُها! فهو ابنُ الجميع. ولا يُرمَى بعارِ عدمِ التسامحِ دينٌ أو جنس. بل إن أصولَ هذه الرذيلة، المسماة عدمَ التسامحِ، ليست سوى حالة فكريّة منَ التعصبِ المشوّه، وهي حالة يمكنُ علاجها إما بعد المرورِ بصدماتِ الموتِ والحروب التي تقتلُ ملايين الأرواحِ، وإما بقراءة جادة وأسئلة عميقة وتأمُّلٍ يقطعُ بصاحبهِ عشرات السنواتِ ليَقبَل الآخرَ، ويُقبِّل رأسَ التاريخِ، أستاذَ الجميعِ، وواعظَ الأذكياء، وملهم المتأملين.
المبادئُ الإيجابية في حياة البشرية، كامنة، ولكنّ إيقاظَها وإبرازَها، مرهونٌ بمسار جماعيّ؛ تبدأُ الحكاية فردية، ثم تتحولُ إلى جماعية؛ إذا أخذنا السياقَ الأوروبي، نجد أنّ جون لوك وفولتير مثلاً شهدا الفظائعَ، وتفاعَلا معها بطرحِ أفكارِهما التي دَفَعا ثمنَها غالياً، ولكنّ هذا الثمنَ تحوَّلَ إلى جزءٍ من مجدِ الأفكار إلى جانبِ جدوَاها.
حينَما يزعجنا ربطَ مفهومِ الإرهاب بديننا الحنيفِ أو ثقافتِنا السمحة علينَا أن نقدِّمَ اجتهادَنا في تفكيكِ منهجِ الإقصاءِ والكراهية، وأن نعيدَ طرحَ ثَقَافتِنا الراهنة لا عبرَ منظوماتٍ تراثية متحفظة أو أساطيرَ مجتمعية مرتبكة أو ممارساتٍ فردية متنطعة، بل عبرَ منتجنا الحيويّ ومبادرتنا الذكية لسياسة التسامحِ وإدارة الذاكرة، والاحتفاء بالتنوعِ، وإدراكِ أهمية التعايشِ.
إنَّ العيشَ المشتركَ هو ركن الدولة في عصرِنا، والتوافق عليهِ هو القرارُ الضامنُ لاستقرارها، فنحن نعيشُ معاً بإرادتنا، ولو تخلخلت هذه الإرادة الطوعية، لانهارَ البناءُ، وهناك من يَسعى لتدميرِ سِلمِنا المجتمعيّ، وقبولِنا للآخر، وهوَ يجيدُ اللّعبَ على وترِ ترسيخِ الانقسامِ داخلَ المجتمعات. ولِنمنعه، علينا أن نراجعَ سيرة توحدنا والقيمَ الضامنة لذلك.
لقد كسر الآباءُ المؤسسونَ والجيلُ الأولُ، في كلِّ الدولِ، جدرانَ اختلافاتِهم بحكمة؛ وقبلوا تناقضَاتهم بتسامٍ، بل وصهرُوها في بوتقة واحدة توحِّد المجتمـعَ برضـا وتماسكٍ طوعيّ. هذه الطوعية والرِّضا هما الضمانُ المؤكدُ. ونحنُ مطالَبونَ بأن نُوَرِّثَ هذا الرِّضا لأبنائنا وأحفادِنا، ولا يمكنُ ذلك من دون تعزيز حزمة مفاهيم لقبولِ الآخرِ على رأسِها التسامحُ. ولذلك، فإنّه ليسَ ترَفاً، بل مِدْماك الدولة، وضمانة وحدتِها.
لم نَعد في رسالتنا اليومَ مِلكاً لأنفسِنَا فقط، بل صِرنا جزءاً من تجمّع إنسانيّ، لا ينقطعُ بعضِهِ عن بعض، يزدادُ تَواصلاً، وتتزَايدُ رَغَباتُه ومخاوفه؛ تتقاطعُ مصالحُه؛ ويسودُ فيه لونٌ مِن الخَيرِ، وألوانٌ مِنَ الشرِّ، يتصيّدُ الأخطاءَ، ولكنّ ضميرَه الجمعيّ، عامرٌ بالطيبين؛ وعلينا أن نختارَ إلى أي جهة ننحازُ: إلى الخائفين مَن الآخرِ المرعوبين من الإنسانِ، أم إلى طلقاءِ الوجوهِ رحباءِ الصدورِ أهلِ السماحة والتقبلِ؟
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة