تأتي القرارات الأمريكية ضمن توجه إدارة الرئيس ترامب لاتباع سياسة الحماية التجارية ضد الشركاء التجاريين الذين يحققون فوائض تجارية كبيرة.
في تصعيد جديد متوقع أقدمت الإدارة الأمريكية على فرض رسوم جمركية إضافية قدرها 10% (تزيد إلى 25% مع بداية عام 2019) على وراداتها من سلع صينية تبلغ قيمتها 200 مليار دولار، لترد الصين بفرض رسوم تتراوح ما بين 5% إلى 10% على وارداتها من سلع أمريكية تبلغ قيمتها 60 مليار دولار، ومن المنتظر أن تدخل هذه القرارات حيز النفاذ يوم 24 سبتمبر الجاري.
تركز واشنطن على كبح قدرة بكين على إجراء التحولات الهيكلية في اقتصادها التي تؤهلها لتبوء مكانة محترمة على قمة الاقتصاد العالمي في المدى المنظور، وربما تمكينها من موقع القيادة في الأجل الطويل
وتأتي القرارات الأمريكية ضمن توجه إدارة الرئيس ترامب لاتباع سياسة الحماية التجارية ضد الشركاء التجاريين الذين يحققون فوائض تجارية كبيرة مع الولايات المتحدة، مثل الصين والمكسيك وكندا وكوريا الجنوبية، وبعض دول الاتحاد الأوروبي وبوجه خاص ألمانيا، إلا أن الصين تعد حالة خاصة مركبة ومعقدة في هذا السياق، فهي التي تحقق أكبر فائض تجاري مع أمريكا، بلغ في العام الماضي 375 مليار دولار، لكن الأكثر أهمية أن الولايات المتحدة تنظر لها باعتبارها خصما ومنافسا على الصعيد الدولي، وتسعى إلى زحزحة الولايات المتحدة عن موقع الهيمنة الاقتصادية والسياسية على النظام الدولي.
وتركز واشنطن على كبح قدرة بكين على إجراء التحولات الهيكلية في اقتصادها التي تؤهلها لتبوء مكانة محترمة على قمة الاقتصاد العالمي في المدى المنظور، وربما تمكينها من موقع القيادة في الأجل الطويل، ولما كان الطريق المعروف للترقي الاقتصادي هو الاستناد إلى التحول الهيكلي في الاقتصاد، خاصة من خلال استخدام العلم والتكنولوجيا، فما تخشاه الولايات المتحدة هو إعلان الصين هدف التحول إلى اقتصاد متقدم ومتخصص في إنتاج وتصدير السلع المتقدمة من التكنولوجيا بحلول عام 2025.
دور السياسة الصناعية:
يأتي في مقدمة الأسباب التي تستند عليها واشنطن في حربها التجارية ضد بكين؛ ما ترى أنه ممارسات اقتصادية وتجارية غير عادلة وعلى رأسها سرقتها حقوق الملكية الفكرية الأمريكية، وإجبارها الشركات الأمريكية الراغبة في العمل في الصين على البوح بأسرارها التكنولوجية حتى يتم السماح لها بدخول السوق، ووقف سياستها الصناعية التي تدعي أمريكا أنها تنتهك قواعد التجارة الدولية.
والواقع أن الولايات المتحدة ذاتها من بين أكبر الدول التي استخدمت السياسة الصناعية تاريخيا من أجل إحراز قصب السبق الاقتصادي، وتبوء مكانتها التي تحتلها منذ الحرب العالمية الثانية، وكما يقول أحد الاقتصاديين الأمريكيين الكبار إن بلاده حققت قفزتها الكبرى من كونها اقتصادا زراعيا إلى اقتصاد صناعي متقدم مع الحرب، حيث كان الجهد الحربي بحد ذاته هو السياسة الصناعية، فتم سحب العاملين بالقطاع الزراعي ودفعهم إما للمشاركة في القتال، أو الدفع بهم للمناطق الحضرية لكي يصنعوا السلاح المطلوب، وبعد الحرب قدمت الحكومة تعليما عاليا مجانيا لكل من شارك في القتال من الشباب من أجل ضمان امتلاكهم المهارات المطلوبة لـ"الاقتصاد الجديد". وخلال نصف القرن المنصرم لعبت حكومة الولايات المتحدة دورا مركزيا، باستثماراتها الرئيسية في البحث العلمي والتطوير. وما تزال الحكومة الأمريكية هي أكبر حكومة في العالم تستثمر الأموال العامة في البحوث والتطوير، حيث بلغت النسبة المخصصة لهذا المجال في عام 2016 نحو 2.79% من الناتج المحلي الإجمالي، وبما يقدر بنحو 520 مليار دولار، بل كان المعتاد أن تزيد هذه النسبة على 4% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العقود التالية مباشرة للحرب العالمية الثانية.
وكانت هذه السياسة الصناعية وما أحدثته من تحولات في هيكل الاقتصاد هي سبب التقدم الأمريكي المستمر، فبينما كان التقدم قبل ذلك يستند إلى التوسع في استخدام قاعدة الموارد المحلية الضخمة، صار يستند إلى التزايد المستمر في الإنتاجية، أي إنتاج كمية أكبر من المنتجات بنفس كمية الموارد، وهو يماثل ما حدث في مجال الزراعة تماما، مما يطلق عليه التوسع الأفقي والتوسع الرأسي الزراعي، ففي حال التوسع الأفقي يتم زيادة الإنتاج الزراعي بإدخال المزيد من الأراضي لحلبة الإنتاج، أما في حال التوسع الرأسي فيحدث ما يسمى بالتكثيف الزراعي؛ حيث تعد المدخلات التي تسهم في رفع الإنتاج كلها تقريبا من ثمار البحث العلمي والتكنولوجيا، مثل استخدام البذور المحسنة والأسمدة والمبيدات المقاومة للآفات الزراعية، أو استخدام آلات زراعية أكثر كفاءة في عملية الإنتاج، والخلاصة أن زيادة الإنتاج تتوقف أن تكون معتمدة على التوسع في مساحة الأرض المزروعة، بل إنتاج المزيد من المنتجات من رقعة الأرض نفسها، استنادا إلى البحث العلمي والتكنولوجيا، وحيث نجد أن الزراعة هي ذاتها تحولت إلى صناعة بكل ما تعنيه الكلمة، وبينما لا يعمل بالنشاط الزراعي الآن سوى ما لا يزيد عن 2% فقط من قوة العمل الأمريكية، إلا أن هؤلاء ينتجون أضعاف ما كان ينتجه أعداد أكبر بكثير من العاملين في هذا النشاط في العقود والقرون السابقة.
وتضع الولايات المتحدة الأمريكية في حسبانها التطور الصيني السريع على طريق التحول الهيكلي للاقتصاد مقارنة بالتطور الأمريكي ذاته، فبينما احتاجت الولايات المتحدة لأكثر من سبعين عاما لكي تنخفض نسبة العاملين في الزراعة من 58% إلى نحو 20% من القوة العاملة، انخفضت نسبة العاملين الصينيين بالزراعة من 55% عام 1991 إلى 18% فقط عام 2017، أي خلال 26 عاما لا غير، كما تضع واشنطن في حسبانها أيضا الدور المركزي الذي تلعبه الدولة في الصين، وقدرتها على توجيه قسم كبير من مواردها كما تفعل حاليا للاستثمار في مجال البحث العلمي والتكنولوجيا، وبما قد يترتب على ذلك من تحول هيكلي ربما يؤدي في نهاية المطاف إلى زعزعة المكانة التي تحتلها واشنطن حاليا.
ويبدو أن بكين تدرك جيدا أهداف الولايات المتحدة من حربها التجارية ضدها، فقد علقت وسائل إعلام رسمية صينية، تنتسب للحزب الحاكم، على الإجراءات الأمريكية الأخيرة بقولها إن بكين لا تخشى "الإجراءات المتشددة" التي تتخذها الولايات المتحدة في الحرب التجارية بين البلدين، وسوف تستغل الفرصة لإحلال الواردات وتعزيز الإنتاج المحلي والتعجيل بتطوير منتجات التكنولوجيا الفائقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة