"إذا خطت إسرائيل خطوة واحدة نحونا، فربما يمكن أن تتخذ تركيا خطوتين، إذا رأينا ضوءا أخضر، فسوف تفتح تركيا السفارة مرة أخرى ونعيد سفيرنا، وربما في مارس يمكننا استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مرة أخرى، لم لا".
الكلام أعلاه بالحرف، هو لمسعود جاسين، مستشار أردوغان لشؤون السياسة الخارجية.
والسؤال هنا، ما الذي يمكن فهمه من كلام المسؤول التركي؟ الجواب المختصر، هو التهافت التركي على استعادة العلاقات الكاملة مع إسرائيل. ولكن لماذا هذا التهافت التركي على إسرائيل؟ وماذا عن دلالات التوقيت؟ وأين ذهبت شعارات أردوغان السابقة، بخصوص تحرير القدس، ورفع الحصار عن غزة، ووصفه إسرائيل بدولة الإرهاب؟
في الواقع، منذ الإعلان عن توقيع معاهدة السلام الإماراتية - الإسرائيلية، بدت تركيا وكأنها تعيش حالة من عدم التوازن، بين الهجوم على اتفاقيات السلام التي توقعها الدول العربية مع إسرائيل، وبين التهافت التركي على إسرائيل، والسعي لاستعادة كامل العلاقة معها، رغم أن العلاقة بين الجانبين جيدة، كما تشير أرقام حجم التبادل التجاري بينهما، وهذا أمر يتجاوز التناقض والانفصام إلى السخرية والسذاجة معا، إذ إن أصغر طفل بات يدرك مدى نفاق أردوغان وسياسته بخصوص القضية الفلسطينية والمتاجرة بها. وعليه، فإن توقيت التهافت التركي على إسرائيل يحمل مؤشرات مهمة، لعل أهمها:
أولا- أردوغان يحس بخسارة عميقة من فوز جو بايدن بالرئاسة الأمريكية، ويدرك صعوبة العلاقة مع إدارته، ولاسيما بعد العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية على تركيا، وفي ظل وجود مشاريع عقوبات أشد على طاولة الكونجرس ضد بلاده، يعتقد أردوغان أن إسرائيل تشكل أفضل مفتاح لتحسين العلاقة مع إدارة بايدن، والتوصل إلى تفاهمات مع واشنطن بشأن صواريخ إس - 400 التي بسببها فرضت واشنطن عقوبات على الصناعات العسكرية التركية.
ثانيا- مسار السلام العربي الذي بدأ مع المعاهدة الإماراتية – الإسرائيلية للسلام، ومن ثم البحرين والسودان والمغرب، والحديث عن معاهدات واتفاقيات مماثلة منتظرة مع عدد من الدول العربية، يجعل أردوغان يحس بخسارة كبيرة ستلحق بالعلاقة التاريخية والحيوية لبلاده بإسرائيل لصالح الدول العربية. إذ إن تركيا التي كانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل عام 1949، لا تريد شريكا أو منافسا من المنطقة، يكون على علاقة جيدة بإسرائيل، خوفا من تراجع مكانتها وقدرتها على التلاعب بقضايا المنطقة، ولاسيما متاجرته بالشعارات الإسلامية، واستغلاله لجماعات الإخوان المسلمين، وعلاقته مع قطر، فهو بات يدرك أن مسار السلام العربي - الإسرائيلي يؤسس لنظام إقليمي جديد في المنطقة، سيكون من أهم أولوياته مواجهة الأجندة التركية والإيرانية الطامحة للسيطرة والهيمنة.
ثالثا - مسألة البحث عن الطاقة في المتوسط، هي في صلب التوجه التركي نحو إسرائيل، إذ إن تركيا وبعد الاصطفاف الأوروبي والإقليمي إلى جانب اليونان في الصراع على الطاقة شرقي المتوسط، وإبقاء تركيا خارج منتدى غاز شرق المتوسط، وتحول الأخير إلى منظمة إقليمية مقرها القاهرة، فضلا عن الاتفاقيات التي وقعت بين مصر واليونان وقبرص وإسرائيل بشأن غاز المتوسط، كلها وقائع جعلت من تركيا دولة معزولة في المتوسط، بل وفي صدام مع معظم دوله. وعليه، تبدو تركيا بحاجة ماسة إلى إسرائيل لعقد اتفاقيات معها بخصوص موارد الطاقة في المتوسط، ولتقوية موقفها في مواجهة التحالفات الإقليمية الجارية بهذا الخصوص.
أردوغان الحاصل على جائزة الشجاعة اليهودية، والذي زار القدس عام 2005، واكتفى بابتسامة عندما قال له شارون "مرحبا بك في القدس عاصمتنا الأبدية"، لن يجد صعوبة في تقديم المزيد من التنازلات لإسرائيل مقابل استعادة العلاقة الكاملة معها، والاستفادة منها لتحسين العلاقة مع الإدارة الأمريكية المقبلة كما يتوقع، لكن السؤال هنا، متى يكف أردوغان عن متاجرته بالقضية الفلسطينية، ومحاولته توظيف هذه القضية في استخدام جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها الإخوان المسلمين، كمرتزقه له في سفك دماء السوريين والليبيين وغيرهم من الشعوب العربية، وبث الفوضى ونشر الإرهاب في بلدانهم مع أن كل ذلك بات مكشوفا ومفضوحا للجميع؟ من دون شك، من دون توقف أردوغان عن كل ما سبق، فإن جل حديثه عن رغبته بفتح صفحة جديدة هنا أو هناك، ليست إلا مناورة سياسية جديدة للخروج من أزماته المتفاقمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة