منذ اللحظة الأولى لقيام دولة الإمارات، كانت أفريقيا حاضرة في البصيرة الاستراتيجية للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي أدرك أن العلاقات لا يعيقها بُعد المسافات، بل تتحدد بالقدرة على بناء شراكات تتجاوز حدود المكان والزمان.
وعلى خطاه، واصل قادة الإمارات تعزيز الحضور الإماراتي في القارة السمراء، حيث تختلط التحديات الكبرى بالفرص الواعدة، لتصبح أفريقيا ميدانا استراتيجيا مفتوحا أمام التعاون متعدد الأبعاد والأهداف.
ومن هذا المنطلق جاءت زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى أنغولا لتجسد امتدادا لهذه الرؤية المتجذرة في عقيدة السياسة الإماراتية، فالزيارة تجاوزت المعنى البروتوكولي المتعارف عليه، حيث حملت في طياتها رسالة سياسية واقتصادية عميقة، مفادها أن دولة الإمارات ترى في أفريقيا شريكا استراتيجيا طويل المدى، وأنها تتعامل مع القارة ليس بوصفها خزانا للثروات الطبيعية، بل فضاء حيا للاستثمار في الاستقرار والازدهار.
لقد أثبتت الإمارات، عبر عقود، أنها ليست زائرا عابرا في أفريقيا، بل شريكا في التنمية، حيث تجاوز إجمالي استثمارات الدولة في القارة حتى الآن 110 مليارات دولار في أهم المجالات ذات الأولوية، ويشمل ذلك التزاما بقيمة 10 مليارات دولار من "مصدر" لتوليد 10 غيغاواط من الطاقة النظيفة في أفريقيا بحلول عام 2030.
حضور الإمارات بارز في أفريقيا واتسع ليشمل الاقتصاد، والطاقة، والبنية التحتية، فالتجارة غير النفطية بين الإمارات وأنغولا وحدها بلغت في العام الماضي 2.2 مليار دولار، مع توسع في اتفاقيات النقل والرقمنة والطاقة النظيفة. وفي السياق نفسه، أعلنت وزارة الاقتصاد الإماراتية العام الماضي إطلاق منصتها الرقمية "بوابة أفريقيا للاستثمار الإماراتي"، بهدف تحفيز الشركات المحلية في الدولة على الاستثمار والتوسيع بالأسواق الأفريقية، وتعزيز الشراكات الاقتصادية والاستثمارية بين دولة الإمارات والدول الأفريقية.
كما شهدت العلاقات الاقتصادية توقيع اتفاق الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA) مع كينيا في 2024، ليصبح بوابة لتدفق التجارة والاستثمارات، فيما دخل الاتفاق نفسه حيز التنفيذ مع موريشيوس، مع توقع مضاعفة حجم التجارة إلى نحو 500 مليون دولار خلال خمس سنوات.
أما الموانئ الإماراتية، فقد أصبحت جزءا من شبكات التجارة الأفريقية، تسهل انسياب السلع وتفتح أفقا جديدا للنمو، حيث وسعت مجموعة موانئ أبوظبي أنشطتها في شمال أفريقيا والبحر الأحمر باستثمارات تبلغ 140 مليون دولار، بعدما اشترت المجموعة حصة بنسبة 70% من شركة ترانسمار الدولية للنقل البحري وشركة ترانسكارجو الدولية، أما "موانئ دبي العالمية"، فلديها أنشطة لوجستية في 12 دولة أفريقية، باستثمارات تبلغ 3 مليارات دولار أمريكي، وتدير موانئ في موزمبيق وأنغولا ورواندا والكونغو الديمقراطية، وبروندي، وأوغندا وتنزانيا وكينيا، وغيرها.
ولم تغب الطاقة عن المعادلة الإماراتية الأفريقية، فمن خلال مبادرة "اتحاد 7"، التي تم إطلاقها في 2022، تسعى الإمارات لتمكين مئة مليون أفريقي من الحصول على الكهرباء النظيفة بحلول 2035، ومشروعات شركة "مصدر" تنتشر في القارة من الشرق إلى الغرب، تحمل معها شمس الإمارات ورياحها لتضيء قرى نائية وتبني نموذجا للتنمية المستدامة، فقد استثمرت "مصدر" في 5 مزارع للرياح في جنوب أفريقيا، ودشنت نظاما لتخزين البطاريات في السنغال، وبنت مرافق للطاقة الشمسية في موريتانيا، ولديها خطط للاستثمار في زيادة إنتاج الكهرباء بمقدار 10 جيجاوات في دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تبلغ قيمتها 10 مليارات دولار.
واستثمرت الإمارات أكثر من 12 مليار دولار في مشروعات تنموية، وأخرى للطاقة المتجددة في جميع أنحاء أفريقيا، من خلال شراكات مع القطاعين الحكومي والخاص، فيما تواصل الإمارات حشد الجهود الدولية من أجل تحقيق أهداف اتفاق باريس للمناخ.
وفي مجال الأمن الغذائي، أصبحت أفريقيا وجهة للاستثمارات الإماراتية في مجالات الزراعة، حيث تحظى القارة السمراء بحصة هي الأكبر في 14 مشروعا زراعيا إماراتيا، بالإضافة إلى 56 اتفاقية لتعزيز الأمن الغذائي الأفريقي، ومشروعات في دول لديها موارد زراعية متميزة مثل إثيوبيا.
وعلى المستوى السياسي، لم تكن دولة الإمارات بعيدة عن صناعة السلام حيث رسخت دورها كشريك فاعل في دعم الاستقرار بالقارة الأفريقية، فقد لعبت دورا بارزا في المصالحة التاريخية بين إثيوبيا وإريتريا عام 2018 لتنجح في إنهاء أطول نزاع في أفريقيا بين إريتريا وإثيوبيا، كما عززت الإمارات حضورها الدبلوماسي من خلال استضافة أبوظبي، العام الماضي الاجتماع الخامس للمجموعة الخماسية للتشاور بشأن الصومال (QUINT)، حيث بحثت المجموعة خريطة طريق استراتيجية شاملة لمعالجة التحديات الراهنة في الصومال.
وشاركت دولة الإمارات في مؤتمر المانحين لدعم بعثة الدعم الدولية بقيادة أفريقية "ميسكا" في جمهورية أفريقيا الوسطى، وجددت دولة الإمارات التزامها بالعمل مع الشركاء لتعزيز الأمن والسلام في أفريقيا، وذلك خلال عضويتها السابقة في مجلس الأمن، مؤكدة أهمية التعاون الدولي في تحقيق الاستقرار الإقليمي.
وعلى المستوى الثقافي، شهدت دولة الإمارات في 2022 الإعلان عن "منصة الشراكة الإماراتية- الأفريقية"، من أجل تعزيز شراكة دولة الإمارات مع دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ومد جسور التواصل والتبادل الحضاري والثقافي والمعرفي والاقتصادي مع شعوب هذه الدول الصديقة في مختلف القطاعات مثل قطاع التعليم والصحة والطاقة والاستدامة والعلوم والفنون والتراث والفكر والأدب.
إن ما يميز التجربة الإماراتية في أفريقيا هو أنها تتجاوز لغة المصالح الضيقة إلى نموذج من التعاون المتكامل واسع الأفق، حيث لا تفرض الإمارات وصاية، بل تقدم شراكات، ولا تبحث عن الربح بل عن الاستثمار في مستقبل مشترك وسيلته وغايته الإنسان ولا غيره، وهو ما ظهر جليا في جميع مراحل التعاون حيث تتقاطع المساعدات الإنسانية مع الاستثمارات الاقتصادية، وتلتقي فيها الطاقة النظيفة مع مشاريع البنية التحتية، وتبنى على قاعدة أن الاستقرار لا يشترى، بل يصنع بالشراكات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة