تستأهل أبوظبي، عاصمة دولة الإمارات العربيّة المتحدة، استضافة السباق الأخير من بطولة العالم لسائقي سيارات "الفورميلا وان".
ستستضيفه كل عام حتّى السنة 2030. يؤكّد ذلك ثقة العالم بتلك الدولة الشابة، شابة في مفهوم الدول. فالإمارات احتفلت بالذكرى الخمسين لقيامها قبل أيّام قليلة.
حسمت بطولة السنة في أبوظبي مثلما تحسم قضايا أخرى ذات طابع سياسي واقتصادي في أبوظبي. ما هو أهمّ من ذلك كلّه أن دولة الإمارات حسمت خيارها الأساسي. بين البقاء في أسْر الماضي وعقَده وبين الانتماء الى المستقبل والبناء من أجل الارتباط به، اختارت المستقبل مع البقاء وفيّة في كلّ يوم وفي كلّ ساعة لرؤية المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.
قد تكون الجائزة الكبرى لـ"أبوظبي" التي انتهت بفوز السائق الهولندي ماكس فيرشتابن، ابن الـ24 عاماً بلقب بطل العالم، مجرد حدث عادي بالنسبة إلى كثيرين. في الواقع، الأمر ليس كذلك. الحدث يعني وجود جيل جديد من السائقين، من جهة، وطيّ صفحة جيل السائق لويس هاملتون ابن الـ36 عاماً، بطل العالم سبع مرات، الذي يمكن اعتباره أبرز سائقي البطولة في السنوات الـ15 الماضية، من جهة أخرى.
يرمز فيرشتابن إلى المستقبل بغض النظر عن الظروف التي رافقت فوزه على هاملتون الذي اعترض فريقه "مرسيدس" على النتيجة.
كان هاملتون عادل رقم الأسطورة مايكل شوماخر الذي استطاع إحراز لقب بطل العالم سبع مرات.
ليست سباقات بطولة العالم للسائقين، التي تحمل تسمية الجائزة الكبرى، مجرّد سباقات عالميّة ذات طابع رياضي فقط. تشكل هذه السباقات حقل تجارب ومختبراً حيّاً يساعدان في تطوير صناعة السيارات في العالم في عزّ الثورة التكنولوجيّة وفي مرحلة الانتقال من المحرّك الذي يعمل بالوقود إلى المحرّك الكهربائي الذي يرتبط بالمستقبل... وحماية البيئة.
استضافت دولة الإمارات سباق الجائزة الكبرى لأبوظبي، للمرّة الأولى في عام 2008. إذا كان ذلك يدلّ على شيء، فهو يدل على أنّها رأت المستقبل قبل غيرها. هذه دولة تسير على خطى رؤية المؤسّس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي وضع قبل نصف قرن الأسس لدولة عصريّة تسودها قيم حضاريّة.
استطاع أبناء الشيخ زايد متابعة المسيرة بعد وفاته في عام 2004. كانوا أوفياء للقيم التي آمن بها والدهم. في مقدّم هذه القيم الاهتمام بالإنسان وبكل ما هو مرتبط به بدءاً بنشر ثقافة التسامح.
يوفّر حضور الجائزة الكبرى لـ"أبوظبي" على حلبة جزيرة ياس مناسبة للتأكّد من أنّ دولة الإمارات استطاعت حسم خيار الانتماء إلى المستقبل. البلد ورشة كبيرة والعمران في أبوظبي يتوسّع.
في أساس كلّ هذا التحوّل التركيز على الإنسان انطلاقاً من التعليم. يسمح التعليم للإنسان الإماراتي بالتخلص من كلّ أنواع الخرافات والانتماء في الوقت ذاته إلى العالم وصولاً إلى صنع مركبة هي "مسبار الأمل" لاستكشاف المرّيخ.
يمكن الحديث عن حلقات مترابطة تستهدف الانتماء إلى المستقبل على كلّ صعيد انطلاقاً من التركيز على الإنسان. لا يمكن الفصل بين التنظيم الدقيق الذي يميّز سباق الجائزة الكبرى لـ"أبوظبي"، وهو تنظيم يشارك فيه متطوعون إماراتيون، وسياسة الانفتاح التي تمارسها دولة الإمارات. تقوم هذه السياسة على التعقل والاعتدال والقدرة على مراجعة تجارب الماضي دون عقَد.
من هذا المنطلق، نجد العلمين الإيراني والإسرائيلي يرفرفان في سماء دبي في مناسبة "إكسبو 2020 دبي" ونجد رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، في "أبوظبي" بعد أيّام قليلة من زيارة مستشار الأمن الوطني الشيخ طحنون بن زايد طهران ولقائه رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي.
في الوقت ذاته، ليس مستبعداً أن يزور المتشدّد إبراهيم رئيسي الإمارات قريباً ومن الطبيعي أن يزورها أيضاً الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ردّاً لزيارة قام بها الشيخ محمّد بن زايد آل نهيان، وليّ عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى أنقرة.
تعرف الإمارات كيفية الحفاظ على مصالحها دون التفريط بما هو أساسي بالنسبة إلى أبناء زايد. يبقى الإنسان الإماراتي ورفاهه في أساس رؤية مؤسس دولة متصالحة مع نفسها ومع أناس من مائتي جنسية مختلفة يعيشون على أرضها بأمان واطمئنان.
تسمح رؤية زايد بن سلطان آل نهيان بالتفكير في المستقبل... مستقبل ما بعد النفط. هناك في الإمارات من يعرف تماماً أن ثروة النفط والغاز لن تستمرّ إلى ما لا نهاية وأنّ لا مفرّ من الإعداد لمرحلة ما بعد النفط من الآن. فما يبقى هو ثروة الإنسان بعقله المنفتح القادر على تقدير قيمة العمل اليومي واستيعاب ما يشهده العالم على صعيد الثورة التكنولوجيّة التي توازي بأهمّيتها الثورة الصناعيّة التي غيّرت العالم قبل بضعة قرون.
الخيار واضح بين العيش في الماضي والعيش من أجل مستقبل أفضل. واضح أن الإمارات حسمت خيارها. رؤية المستقبل، بكلّ ما يعنيه، يختزلها سباق الجائزة الكبرى لـ"أبوظبي"، حيث تمتزج الرياضة بالتكنولوجيا الحديثة وتطوير هذه التكنولوجيا التي تسعى، بين ما تسعى إليه، إلى تمكين العالم من حماية البيئة والحدّ من التغيير المناخي عبر التخلّص من احتراق وقود السيارات.
نقلا عن النهار العربي
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة