اتفاق التجارة الذي تم التوصل إلى خطوطه العريضة بين الولايات المتحدة والصين هو اتفاق تم بين محاربين متعبين
قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الاثنين الماضي إنه يتوقع التوقيع على جزء كبير من اتفاق التجارة مع الصين قبيل الموعد المقرر. وهو ما يشير إلى تفاهم سريع بين البلدين حول تفاصيل اتفاقهما التجاري. وكما أشرنا في مقال سابق فالاتفاق في جوهره مجرد صفقة بين الجانبين لا ترقى إلى وصفها حقا بالاتفاق الذي تتم فيه تصفية الخلافات بينهما نهائيا، وهو ما دعا إلى إطلاق عنون "اتفاق المرحلة الأولى" على هذا الاتفاق الذي تتراجع بموجبه الولايات المتحدة عن رسوم جمركية إضافية كان مقررا تفعيلها في منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مقابل شراء الصين لمنتجات زراعية أمريكية بقيمة تتراوح ما بين 40-50 مليار دولار سنويا، علاوة على بعض الاتفاقات في الجوانب التكنولوجية والمالية بدون التعامل مع المشاكل المعقدة التي تميز هذه الجوانب والتي عطلت التوصل إلى اتفاق شامل بين البلدين حتى الآن.
اتفاق التجارة الذي تم التوصل إلى خطوطه العريضة بين الولايات المتحدة والصين هو اتفاق تم بين محاربين متعبين، هو مجرد هدنة أو استراحة، بينما القضايا الأكثر جوهرية
وكما ذكر العديد من الاقتصاديين، نجد أنه في الحروب التجارية يخرج الجميع على الأغلب خاسرين، فما بالنا بحرب تجارية بين أكبر اقتصادين في العالم! مما جعل الخسارة لا تقتصر عليهما وحدهما بل تطال كافة بلدان العالم. فقد خفضت منظمة التجارة العالمية توقعاتها مؤخرا لنمو التجارة الدولية في العام الحالي لتصبح 1.2% بدلا من 2.6% كانت متوقعة سابقا. ويمكن القول إن التوصل لاتفاق بين الولايات المتحدة والصين يعود إلى بعض العوامل الاقتصادية والسياسية الظرفية التي يمر بها كل البلدان، بحيث كانا كلاهما بحاجة لـ"استراحة محارب" بشكل سريع نسبيا.
فعلى الجانب الصيني انخفض معدل نمو الاقتصاد في الربع الثالث من العام (يوليو/تموز-سبتمبر/أيلول) إلى أقل مستوى له منذ عام 1992، وهو العام الذي بدأ فيه تسجيل معدلات النمو ربع السنوية، ويعزى هذا الانخفاض إلى حد كبير للحرب التجارية التي نشبت مع الولايات المتحدة منذ العام الماضي. وقد بلغ معدل النمو خلال الربع الثالث 6%، وانخفاضا من معدل بلغ 6.2% خلال الربع الثاني من العام، وذلك وفقا للإحصاءات الرسمية.
ويرجح العديد من المحللين أن الحرب التجارية كانت هي السبب الرئيسي في هذا الانخفاض بتأثرها على معنويات قطاع الأعمال والنشاطات الاستثمارية، وذلك على الرغم من قيام الدولة بجهود لحفز الاقتصاد ساهمت إلى حد كبير في التخفيف من مدى الانخفاض في معدل النمو. ويقدر أن الاستثمار الصناعي في الصين خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي انخفض إلى أقل مستوى له في 15 عاما. وانخفضت الصادرات السلعية خلال الربع الثالث من العام للمرة الثانية على التوالي.
وقد انخفضت مبيعات التجزئة إلى 8.2% خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، حيث كان الانخفاض في مبيعات السيارات هو الانخفاض الأكبر بنسبة 11%. وتعد مثل هذه المؤشرات انتكاسة كبيرة لجهود الصين في تحويل الاقتصاد للاعتماد أكثر على طلب المستهلكين والشركات بدلا من الاعتماد على التجارة الخارجية والاستثمارات التي تقوم بها الحكومة.
وعلى الرغم من الانخفاض الكبير الذي شهدته الصين في مدى اعتمادها على التجارة الخارجية خلال السنوات العشرة الأخيرة إلا أن هذه التجارة ما زالت تدعم ملايين الوظائف، ولذلك فمع انخفاض الصادرات تتقلص العديد من الوظائف. ويقدر البعض أن الصين قد فقدت وظائف تتراوح ما بين 1.3 إلى 1.9 مليون وظيفة مع ارتفاع الرسوم الجمركية الأمريكية على السلع الصينية مما أدى لانخفاض الصادرات 22% في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، مقارنة بنفس الشهر من العام السابق، حيث يعد السوق الأمريكي أكبر سوق أجنبي لهذه السلع. كما انخفضت الواردات الصينية من الولايات المتحدة أيضا بمقدار 15.7% خلال نفس الفترة.
وفي الإجمال يقدر صندوق النقد الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي للصين سوف يستمر في الانخفاض عاما بعد آخر على مدار السنوات المقبلة، ليبلغ 5.5% في عام 2024، وذلك في حال استمرار فرض رسوم جمركية أمريكية مرتفعة على الصادرات الصينية.
أضف لهذا كله الاحتجاجات التي تشهدها هونج كونج منذ عدة أشهر، ليضاف إلى ما سبق عرضه من متاعب اقتصادية متاعب سياسية أيضا لم تستطع القيادة الصينية أن تجد لها مخرجا حتى الآن.
أما على جانب الولايات المتحدة، فتشير البيانات الأولية إلى أن الحرب التجارية مع الصين أدت إلى تآكل ثقة قطاع الأعمال، وهو ما ساهم في انخفاض استثمارات قطاع الأعمال لثاني ربع سنوي على التوالي في الربع الثالث من عام 2019. ونتيجة لذلك حقق الناتج المحلي الإجمالي معدل نمو بلغ 1.9% في الربع الثالث من العام بعد أن كان معدل النمو في الربع الثاني 2%، بينما كان يبلغ في الربع الأول من هذا العام 3.1%. وباستثناء الربع الأخير من عام 2018 لم يسجل نموا للناتج المحلي الإجمالي بمعدل يقل عن 2% منذ ثلاث سنوات. وبناء على معدلات النمو ربع السنوية السابق ذكرها فمن غير المنتظر تحقيق معدل النمو الذي كانت تطمح إليه الإدارة الأمريكية خلال العام الحالي، وهو معدل يبلغ 3% ارتفاعا من معدل نمو بلغ 2.9% خلال عام 2018.
وبشكل عام يعزى تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث إلى التباطؤ في إنفاق المستهلكين والإنفاق الحكومي، وإنفاق حكومات الولايات، وانخفاض أكبر في الاستثمارات الثابتة غير السكنية. فقد انخفضت استثمارات قطاع الأعمال بمعدل 3% في الربع الثالث، وهو أقل معدل منذ ثلاثة أعوام ونصف العام، وذلك بعد أن كانت هذه الاستثمارات قد هبطت بنسبة 1% خلال الربع الثاني. وقد حدث انخفاض في الإنفاق على المعدات، وكذا على الهياكل غير السكنية مثل استكشاف المناجم وحفر الآبار. ويعكس هذا الانخفاض أثر النزاعات التجارية، التي كنت وطأتها ملحوظة في انخفاض الإنفاق الرأسمالي، كما يعكس أيضا الانخفاض في أسعار النفط خلال هذا الربع من العام.
وربما كانت أهم جوانب الاتفاق أو الصفقة، وهو ما يهم الرئيس الأمريكي أكثر هو المشتريات الصينية من المنتجات الزراعية الأمريكية لتأثيرها المباشر على حظوظ الرئيس في إعادة انتخابه مرة أخرى. فقد راهن الرئيس طويلا على معاناة الصينيين وتصور أنهم تحت ضغط الرسوم الجمركية المرتفعة سيسارعون إلى تقديم ما كان يتمناه الرئيس من تنازلات تؤدي إلى ضغط العجز التجاري الأمريكي، وزيادة فرص العمل في الولايات المتحدة. بينما بالمقابل نجد أن الواردات الصينية من السلع الزراعية الأمريكية قد انخفضت في عام 2018 بعد نشوب حرب التجارة إلى 9 مليارات دولار بعد أن كانت قد بلغت 19.5 مليار دولار عام 2017، والمزارعون من أكثر الفئات التي وقفت وراء انتخاب الرئيس ترامب في انتخابات عام 2016.
يمكن أن نخلص إذا أن اتفاق التجارة الذي تم التوصل إلى خطوطه العريضة بين الولايات المتحدة والصين هو اتفاق تم بين محاربين متعبين، هو مجرد هدنة أو استراحة، بينما القضايا الأكثر جوهرية التي تتركز حولها الاختلافات هي تلك التي ستشملها المراحل التالية من مفاوضات البلدين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة