ثمة ركائز تاريخية في الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى تفجير فتيل النزاعات مع خصومها أو أعدائها الاستراتيجيين وفي مقدمتهم روسيا.
من خلال الزج بقوى محلية تتقاطع مصالحها ورغباتها مع الهدف الأمريكي البعيد، مستفيدة من غياب الإرادة السياسية الأوروبية المستقلة، أو على الأقل تشتتها الذي انعكس في عدم قدرة الغرب على التفكير والتخطيط الاستراتيجي المستقل عن الولايات المتحدة حيال عدد من القضايا الدولية وحتى بعض القضايا الأوروبية ذات الطابع الأمني بشكل خاص، ويوغسلافيا عقد التسعينيات مثالٌ على ذلك.
استغلت واشنطن ذلك لإظهار حشد واسع خلف نهجها وسياستها وخططها حيال الأزمة الأوكرانية، وأكدها الرئيس بايدن في آخر خطبه، من الركائز الأمريكية التي يمكن تلمّس مساراتها في الأزمة الأوكرانية الراهنة؛ ما كانت قد وضعته إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في تسعينيات القرن الماضي تحت مسمى "استراتيجية منسقة" تحسباً لروسيا صاعدة.
برأي المسؤولين الأمريكيين الذين بدؤوا بالإفصاح عنها؛ فإن الاستراتيجية المنسقة تمثل نموذجاً رئيسياً للصراع الجيوسياسي حول النظام العالمي الجديد بعد الصعود الصيني، وإرهاصات التحول في ديناميكية القوة من الغرب إلى الشرق. ترمي "الاستراتيجية المنسقة" بنظر واضعيها إلى "تقليص حجم روسيا كشرط أساسي للوضع الذي يسبق تعامل الولايات المتحدة مع الصين بشكل شامل"، ويعتقد العديد من المنظرين والمفكرين السياسيين والاستراتيجيين الأمريكيين، أن هذه النظرية في الأساس هي التي أكسبت الولايات المتحدة مكانتها العالية المستمرة خلال العقود الأربعة الماضية.
نظرية الاستراتيجية المنسقة لم تكن من ابتكار طاقم إدارة كلينتون؛ كانت مستخلصةً مما عُرف بـ"عقيدة وولفويتز" الدبلوماسي والسياسي الأمريكي الشهير خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والذي شغل منصب مساعد وزير الدفاع الأمريكي لعدة سنوات وعرف بحماسه للتفوق الأمريكي، وملخصها أن "مهمة أمريكا العسكرية والسياسية يجب أن تضمن عدم السماح لأي قوة عظمى أخرى منافسة بالظهور"، ويعتقد بأن على أميركا أن تقود العالم، وأن لها حق التدخل في أي مكان وأي وقت تراه مناسبا أو ضروريا.
هذه العقيدة تبلورت في ذهن وولفويتز بعد فترة قصيرة من نهاية الحرب الباردة عام 1992، أي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومعه المعسكر الاشتراكي وتفكك حلف وارسو. ما تضمنته أيضا من مبادئ أخرى تركز على عدم السماح لأي قوة إقليمية بالخروج بالقوة والموارد الكافية "لتوليد قوة عالمية" سواء في أراضي الاتحاد السوفييتي السابق، أو في أي مكان آخر، مع وجوب المحافظة على آلية لردع المنافسين المحتملين على المستويين الإقليمي والعالمي.
استنادا إلى حيثيات هذه العقيدة وتجلياتها عمليا اليوم في محيط روسيا، يمكن فهم وتفسير أمرين؛ الأول متعلق بالحاضر؛ وهو دأب معظم النخب الأمريكية ووسائل الإعلام على إطلاق الانتقادات الموجهة للصين ولروسيا منذ بداية عهد بايدن في البيت الأبيض، والثاني تاريخي؛ وهو الزحف المطرد لحلف شمال الأطلسي شرقا منذ نهاية الحرب الباردة، وكلاهما يمثلان تكتيكا من حيث الشكل ويضمران أهدافا بعيدة.
النزاع الناشب بين أوكرانيا وروسيا ببعديه، العسكري والسياسي، يمثل أكثر العلامات دلالة على دوافع الولايات المتحدة الأمريكية غير المعلنة لصب الزيت على نار أزمة تعود جذورها إلى العصور الوسطى، حيث كان البلدان ينتميان إلى الدولة السلافية الشرقية المعروفة وقتذاك "كييف روس"، الأمر الذي قد يفسر حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المسكون بهاجس التاريخ كما يبدو، عن "شعب واحد".
الدعاية التي أطلقها المسؤولون الأمريكيون ومعهم دول حلف شمال الأطلسي بشأن تقديم الدعم للجانب الأوكراني وما يحتاجه عسكريا واقتصاديا لم تنعكس على أرض المواجهات بأي تأثير يذكر، ولم تقدم أي إضافة ملموسة حتى الآن على الأرض لتعديل أو تغيير موازين القوى كما تدعي الدعاية الأمريكية والغربية المشتركة، اللهم إلا كونها عناوين رئيسية لماكيناتهم الإعلامية.
لا يخفى على موسكو جميع هذه النوايا والمخططات، ويبدو أن إدراكها العميق لما يجري ترتيبه لها، شكل أحد حوافزها الاستباقية بهدف تحويل عوامل الضغط عليها إلى خيارات تفاوضية بيدها لاحقا. واشنطن كما هو معروف عنها "تقود من الخلف"، أما الرئيس الأمريكي بايدن فهو أكثر الشهود دراية بحقيقة عقم العقوبات الاقتصادية على روسيا منذ أن كان نائبا للرئيس باراك أوباما إبان أزمتي جزيرة القرم ودونباس عام 2014.
أبعاد النزاع الروسي الأوكراني تتخطى ما تسوقه الأطراف جميعها حول هواجس ورغبات طارئة لطرف، ونزعات لطرف آخر وحسب؛ إنه يرتبط ارتباطا وثيقا بجذور تاريخية سياسية محلية، وبسياسات راهنة تستند إلى تكتيكات تخفي أدوار القوى الخارجية وخططها الكامنة التي تتحين الفرص لتأجيجها وفقا لما تؤكده اليوم كثير من المواقف الأمريكية والغربية. يقول كاتب أمريكي تعليقا على الأزمة الأوكرانية المستعرة : "الحرب في أوكرانيا تكتيكات، وبوتين يفعّل الاستراتيجية " .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة