استقالة تيريزا ماي.. أبعاد الأزمة السياسية في بريطانيا
تعكس استقالة تيريزا ماي حالة الانسداد السياسي الذي تعيشه بريطانيا منذ قرار الخروج من أوروبا في استفتاء عام 2016.
أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي استقالتها من منصبها، موضحة أن الاستقالة ستكون سارية المفعول من 7 يونيو/حزيران المقبل.
جاء مشهد الاستقالة دراميا خاصة مع بكاء ماي على نحو وضع نهاية لطروحات البعض التي شبهت ماي بالمرأة الحديدية مارجريت تاتشر التي كانت أول امرأة تشغل المنصب ذاته.
وبعيدا عن درامية المشهد، يمكن القول إن استقالة ماي لم تكن مفاجئة، فرغم قصر مدة رئاستها للوزراء، زخرت تلك المدة بالعديد من الأسباب والمؤشرات التي ربما أكدت أن تلك الخطوة آتية لا محالة.
الإخفاق في إدارة ملف البريكست
لم تتولَ ماي منصبها نتيجة انتخابات شعبية جاءت بها على رأس السلطة، وإنما تولته بعد استقالة سابقها ديفيد كاميرون في عام 2016 إثر الاستفتاء على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، ورغم أن استمرارها في المنصب لم يتجاوز 3 سنوات، فإن ماي حصلت في تقييم النخبة السياسية البريطانية على لقب أسوأ رئيس وزراء في تاريخ بريطانيا الحديث، وهو ما ارتبط على نحو لا يقبل المواربة بإدارتها لملف البريكست الذي تمحورت رئاستها للوزراء حوله، ومن ثم كان فشلها فيه بمثابة الفشل في المهمة الوحيدة الموكلة إليها، وهو ما يجد تفسيره في أمور عديدة فمن ناحية أولى كانت تقديراتها خاطئة في التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، إذ اعتمدت رؤية تقوم على قدرة بريطانيا على انتقاء ما تريده فقط من علاقتها بأوروبا، وهو ما كان محضَ أمنيات لا يمكن تحقيقها.
أما على المستوى الداخلي فقد عكست إدارتها لهذا الملف قدرا كبيرا من العناد وعدم المرونة، لا سيما مع إصرارها على إمكانية إقناع أعضاء مجلس العموم بخطتها الإصلاحية التي تقدمت بها عدة مرات وتم رفضها، كما يبدو أن ماي لم تدرك الفوارق الأساسية بين شباب بريطانيا وطموحاته في البقاء في الاتحاد اﻷوروبي، وكبار السن الذين كانت انتماءاتهم دوماً للمملكة البريطانية، خاصة وأن الاستفتاء الذى جرى عام 2016 عزف عنه الشباب وأقبل عليه كبار السن، ومن ثم انحازت ماي لخيارهم بامتناعها عن إجراء استفتاء آخر.
وبسبب الضغوط الحزبية اختارت ماي الاستسلام لضغوط مؤيدي الخروج الخشن، وتعهدت بالخروج من السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي، فضلا عن تفعيل المادة 50 من اتفاق لشبونة مما حدد مهلة زمنية للخروج لا تتجاوز العامين.
مؤشرات عدة
كانت هناك سلسلة من الأحداث التي أشّرت على قرب انتهاء وجود ماي في منصبها على نحو دراماتيكي، حيث واجهت العديد من المحطات الصعبة كان من أبرزها:
• استقالة الكثير من وزرائها: فقدت ماي الكثير من أعضاء الحكومة في موجتين من الاستقالات في فترة زمنية قصيرة، حيث تقدم وزير بريكست، ديفيد دايفس، ووزير الخارجية، بوريس جونسون باستقالتيهما يومي 6-8 يوليو/تموز 2018، كما استقال دومينيك راب من منصب وزير بريكست، وإستر مكفي من منصب وزيرة العمل والمعاشات، في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 وفي المرتين استقال وزراء آخرون تباعاً.
• تعرضت ماي لسلسلة من 4 حلقات من الهزائم في مجلس العموم بسبب رفضه خطتها لاتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي، فيما اعتبره المراقبون أكبر هزائم واجهتها حكومة في تاريخ البلاد، لا سيما وأن تلك الهزائم تخللتها محاولة لسحب الثقة منها من نواب حزبها تارة ومن حزب العمال تارة أخرى، وكان على ماي التعهد بالاستقالة قبل الانتخابات المقبلة المقررة في عام 2022 عندما ناضلت للفوز باقتراع بحجب الثقة طرحه نواب حزبها.
• كان قرار ماي بإجراء انتخابات مبكرة في 2017 مؤشرا مهما في هذا السياق، إذ خرج منها حزب المحافظين بعدد مقاعد في البرلمان أقل مما كان عليه قبل الانتخابات.
• لم تندمل جراح ماي مطلقا جراء تلك الانتخابات، إذ بات عليها أن تعتمد على دعم الحزب الديمقراطي الوحدوي من أيرلندا الشمالية بعد فقدانها الأغلبية التي كانت تتمتع بها في مجلس العموم، وقد زادت صعوبة موقفها عندما وافقت على مشاركة بريطانيا في انتخابات البرلمان الأوروبي وهو الأمر الذي أشارت سابقا إلى أنه غير مقبول.
• إخفاق ماي في بناء توافق داخل حزبها "حزب المحافظين"، فرغم تباين أراء نواب الحزب بين من يريد وإجراء استفتاء ثان ومن يريد خروجا ناعما ومن يريدون الخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، ولكنهم جميعا اتفقوا على رفض اتفاق ماي، على نحو قد اضطرها لإجراء تصويت على إرجاء البريكست وهو أمر كانت تصر على رفضه، وكان عليها الاعتماد على نواب العمال لتمرير هذا المقترح بعد تمرد نواب المحافظين عليها.
تداعيات استقالة ماي
تعكس استقالة ماي حالة الانسداد السياسي الذي تعيشه بريطانيا منذ قرار الخروج من أوروبا في استفتاء عام 2016، ومع وجود توقعات مسبقة بحدوث الاستقالة بل وحتى الترحيب بها، يمكن الحديث عن مجموعتين من النتائج المترتبة عليها:
أولا: فيما يتعلق بخليفة ماي
بعد إعلان استقالة ماي يُتوقع أن يشهد حزب المحافظين منافسة على القيادة، ويمكن لأي نائب من المحافظين أن يترشح للقيادة، وسيصبح الفائز قائدا للحزب ورئيسا للوزراء دون خوض انتخابات عامة، ليتسلم رئيس الوزراء الجديد مهام منصبه بنهاية يوليو/تموز المقبل.
وقد أعلن العديد من الوزراء السابقين ترشحهم وهم: وزير الخارجية السابق بوريس جونسون، ووزيرة العمل والمعاشات السابقة إستر مكفي، ووزير بريكست دومينيك راب، ووزير التنمية الدولية روري ستيوارت، والرئيسة السابقة للكتلة البرلمانية أندريا ليدسوم، وثمة أسماء أخرى يُتوقع ترشحها، وهي: وزير الخارجية جيريمي هانت، ووزير البيئة مايكل غوف، ووزير الداخلية ساجد جاويد، ووزيرة الداخلية السابقة أمبر رود.
بيد أن المرشحين الستة الأوفر حظاً لخلافة ماي هم: أندريا ليدسوم، بوريس جونسون، جيريمي هانت، مايكل غوف، ساجد جاويد، دومينيك راب.
فيما يرى مراقبون أن استقالة ماي ستعني بالضرورة إجراء انتخابات عامة مبكرة، لا سيما مع اهتزاز شعبية حزب المحافظين في الانتخابات الأخيرة، ومن ثم فمن المتوقع أن تشكل تلك الانتخابات خسارة لحزب المحافظين، الذي يواجه منافسة شرسة من حزب العمال، الذي كان بمثابة شوكة في مواجهة تيريزا ماي خلال السنوات الماضية.
ثانيا: نمط إدارة لندن لملف بريكست
يتوقع أن تتيح الاستقالة الفرصة لتولي رئيس وزراء جديد يسعى لخطة انفصال أكثر حسماً وأقل تكلفة اقتصادية، ومن المتوقع أن تسير الأمور وفق أحد السيناريوهات الثلاثة في هذا الصدد:
- السيناريو الأول هو تأجيل جديد لـبريكست، فقد يرغب خليفة ماي في إعادة التفاوض مع بروكسل حول شروط الخروج.
-السيناريو الثاني: الخروج دون اتفاق وهو السيناريو الذي تخشاه الأوساط الاقتصادية لأنه يعني خضوع العلاقات بين لندن وبروكسل لقواعد منظمة التجارة العالمية.
- السيناريو الثالث: التراجع عن الخروج، وهو ما يعتمد على إجراء استفتاء جديد تكون نتائجه مغايرة للاستفتاء الأول.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن المفوضية الأوروبية كانت قد علقت على استقالة تيريزا ماي مؤكدة أنه لا شيء تغير في موقف الدول الأعضاء بشأن اتفاق الخروج، مما يعني أن الكرة لا تزال في ملعب لندن.
ختاما، لا بد من التأكيد على أن بريطانيا تشهد حالة من التأزم لم تعرفها منذ الحرب العالمية الثانية، وكان البريكست أحد أعراض هذه الحالة وأحد أسبابها في الوقت ذاته، وهو ما يرتبط بمجموعة من التحديات السياسية لها أبعاد متصلة بالهوية والثقافة والانتماء، ومن ثم كان من الطبيعي أن تعصف بمكانة أي قائد مهما بلغ من قوة وشعبية.
** د. مروة نظير : أستاذ مساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية
aXA6IDE4LjIyNy40OC4xMzEg جزيرة ام اند امز