توماس بيكيتي لـ«العين الإخبارية»: مراكمة البيانات شكل جديد من أشكال تركز الثروة (حوار)
الذكاء الاصطناعي "بدون سياسات عامة" قد يرسخ فجوات رأس المال

أكد توماس بيكيتي، أستاذ الاقتصاد في مدرسة باريس للاقتصاد ومؤلف كتاب "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" أن مستقبل العدالة الاجتماعية مرتبط بقدرة الحكومات على فرض ضرائب تصاعدية عادلة وشفافة، وعلى إعادة توزيع الثروات بطريقة تقلل من التفاوتات.
وقد لاقى كتاب بيكيتي، "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" إشاداتٍ ونقدًا لاذعًا على حد سواء، وقد تصدر وقت صدوره قوائم أكثر الكتب مبيعًا.
ويعد كتاب بيكيتي هو الأكثر تأثيرًا بين كتب الاقتصاديين منذ جيل، إذ استخدم كمًا هائلًا من البيانات لكشف أسباب كون الرأسمالية الحديثة محركًا لتفاقم التفاوت: إذ يجادل بأن معدل العائد على رأس المال يتجاوز معدل نمو الاقتصاد، وأن الثروة تزداد تركيزًا في قمة المجتمع.
وخلال حوار مع "العين الإخبارية" قال بيكيتي إن "التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي يمكن أن تتحول إلى أداة لتحرير الإنسان وزيادة الإنتاجية، لكنها قد تصبح أيضا وسيلة لترسيخ هيمنة الشركات الكبرى وتعميق عدم المساواة إذا غابت السياسات العامة الفعالة".
يأتي ذلك بينما عقدت منظمة الأمم المتحدة، بمقرها الدائم في نيويورك، اجتماعا رفيع المستوى حول الذكاء الاصطناعي، أطلق خلاله المجتمعون "الحوار العالمي حول حوكمة الذكاء الاصطناعي"، بهدف بناء أنظمة ذكاء اصطناعي آمنة، موثوقة، وقابلة للتشغيل المتبادل بين أطر الحوكمة الوطنية، وتشجيع الابتكار المفتوح في هذا المجال، وذلك في إطار فعاليات الأسبوع رفيع المستوى للدورة الـ 80 للجمعية العامة للأمم المتحدة.
وإلى نص الحوار:
صعود الذكاء الاصطناعي يوفر أدوات جديدة لتمكين الأفراد، لكن تطويره ما زال مسيرا إلى حد كبير من قبل الشركات الكبرى. هل تعتقد أن النتيجة النهائية لهذه الموجة من الذكاء الاصطناعي ستؤدي إلى إعادة توزيع أفضل للثروات، أم إلى تركز أكبر في يد الأثرياء؟
الذكاء الاصطناعي لديه قدرة مزدوجة: يمكن أن يكون أداة لتحرير القدرات البشرية وزيادة الإنتاجية العامة، وفي الوقت نفسه يميل إلى أن يزيد من قوة الشركات التي تملك البيانات والبنية التحتية والتمويل.
بدون سياسة عامة قوية كالضرائب على الأرباح الرأسمالية، والضوابط على الخصوصية والملكية على البيانات، وقوانين حقوق العمل والملكية الفكرية، فمن المرجح أن يؤدي انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى تركز جديد للثروة في أيدي رؤوس الأموال الرقمية.
لذلك النتيجة ليست حتمية: يمكن للسياسة العامة أن توجه الأثر نحو إدماج أوسع وإعادة توزيع، أو أن تترك السوق يخلق تكوّنات مملوكة بالكامل للاعبين الكبار.
في ظل تعقيد المشهد العالمي الحالي، ما هي الأدوات الاقتصادية ذات الأولوية التي يجب تطبيقها للحد من تركز الثروات؟ الضريبة التصاعدية؟ الشفافية المالية؟ السياسات التعليمية؟ أم أدوات أخرى؟
لا يوجد حل واحد؛ النظام يحتاج إلى "حزمة" متكاملة، منها ضريبة تصاعدية على الثروة والدخل تضمن أن يكون العبء الضريبي حقيقيا على الشرائح الأعلى وتقلل الفوارق الرأسمالية، وكذلك شفافية مالية دولية بمكافحة التهرب الضريبي عبر السجلات المالية وإتاحة معلومات الملكية الحقيقية.
وأيضا وضع ضوابط على الملكية الرقمية والبيانات، لأن تراكم البيانات هو شكل جديد من أشكال رأس المال.
كما يحتاج النظام لاستثمارات في التعليم والتدريب مدى الحياة لتمكين الطبقات المتوسطة والضعيفة من التكيف مع تغير سوق العمل، وتنسيق دولي، لأن رأس المال يتحرك عابرا للحدود؛ لذلك لا بد من اتفاقات ضريبية وتنظيمية دولية. هذه الأدوات مجتمعة قادرة على معالجة الأسباب البنيوية لترسخ الثروة، وليس فقط أعراضها.
فرنسا تمر اليوم بأزمة اقتصادية صعبة ما بين دين، وصعوبات في تمرير الميزانية، وحاجة إلى إصلاحات، وغضب اجتماعي مقاوم لسياسات التقشف... هل لديكم رؤية لحل هذه العقدة؟
لا بد من موازنة بين ثلاث أولويات: استقرار مالي مع حماية العدالة الاجتماعية، وإصلاحات تعزز النمو الشامل. خطوات عملية ممكنة: إعادة هيكلة الضرائب بحيث تُحمّل الشرائح الأعلى نسبيا أكثر، مكافحة الامتيازات الضريبية والنقدية، توجيه عوائد ضريبية جديدة نحو الاستثمار العام (بنية تحتية، تعليم، انتقال طاقي)، وفتح حوار اجتماعي واسع لتقليل الشعور بالظلم.
أي سياسات تقشف أحادية ستفشل سياسيا واجتماعيا؛ أما الإصلاحات الموزونة التي ترافقها إعادة توزيع عادلة فهي أكثر قابلية للاستمرار.
فرنسا على موعد مع موجة نقل ثروات هائلة (وراثات وتحويلات).. ما أثر ذلك المحتمل على الاقتصاد والمجتمع؟
انتقال ضخم للثروات من جيل إلى جيل يميل إلى تكريس المراكز الاقتصادية والاجتماعية إذا لم تصحبه تعديلات ضريبية وهيكلية.
العواقب المحتملة هي: تزايد عدم المساواة، وتشديد النفوذ السياسي والاقتصادي لعائلات معينة، وإضعاف الحركية الاجتماعية.
لمواجهة ذلك يجب تصميم نظام وراثات وتوريث تصاعدي ومدروس، وربط سياسات الضريبة بتدابير لتمويل التعليم العام والتجديد الاقتصادي لتوفير فرص بديلة للحراك الاجتماعي. هذا سيساعد على تجفيف آليات تكاثر الثروة الموروثة.
هل لاحظت رغبة حقيقية لدى صانعي القرار الوطنيين أو الدوليين في تطبيق بعض أفكارك منذ صدور كتابك "Le Capital au XXIᵉ siècle"؟
الكتاب أثار نقاشا عالميا وجذب اهتماما بالضرائب على الثروة، والشفافية، والقياس التاريخي لعدم المساواة. لاحظت اهتماما متزايدا من الباحثين والمؤسسات الدولية بهذا المجال، وبعض السياسات المحسنة في الشفافية الضريبية والمناقشات حول ضرائب الأغنياء.
لكن التنفيذ السياسي محدود ويواجه مقاومة قوية من مصالح راسخة — هو تقدم جزئي وليس تحولا شاملا بعد.
أمثلة على النقاش العملي: عودة الحديث عن ضرائب على الثروات أو فرض ضرائب أعلى على أصحاب المداخيل العالية في مناسبات عديدة حول العالم.
في كثير من البلدان، الطبقة الوسطى تتحمل الجزء الأكبر من العبء الضريبي.. كيف يمكن للدول إعادة هيكلة أنظمتها المالية لتكون أكثر عدلا دون الإضرار بالاستثمار أو جاذبية رأس المال؟
الحل يكمن في إعادة توزيع العبء الضريبي نحو مصادر أقل تأثيرا على الطلب المحلي والعمل، وتعزيز الضرائب الرأسمالية التقدمية، والحد من المزايا الضريبية على الأرباح الرأسمالية والملكية. وتقليل الاعتماد على الضرائب غير المباشرة (التي تثقل كاهل الطبقات الوسطى والفقراء)، وتعزيز الضرائب المباشرة التصاعدية.
وكذلك استخدام إيرادات الضرائب للاستثمار العام (بنية تحتية وتعليم وصحة) الذي يحسن مناخ الأعمال على المدى الطويل ويزيد من جودة رأس المال البشري، ما يجعل الاقتصاد أكثر جاذبية للاستثمار المنتج بدلا من المضاربة. كل هذا يمكن تنفيذه تدريجيا وبآليات تمنع هروب رؤوس الأموال (التنسيق الدولي، شفافية مالية).
ما ردك على انتقادات الاقتصاديين الليبراليين الذين يرون أن مقترحاتك غير واقعية عمليا؟
أولا، أي سياسة تتطلب تصالحا بين الطموح والواقعية: اقتراحي مبني على بيانات تاريخية وتحليل للتوازن بين عائدات رأس المال ونمو الاقتصاد.
نقد "الواقعية" غالبا ما ينبع من افتراضات سياسية عن مقاومة التغيير وليس من حدود اقتصادية صارمة. نعم، بعض الأدوات تتطلب تنسيقا دوليا وسياسات انتقالية، لكنها ليست "مثالية" بمعنى غير قابلة للتطبيق — لقد طبق التاريخ سياسات تصاعدية للضرائب وإصلاحات بناءة في فترات سابقة عندما توافرت الشروط السياسية.
والبديل هو استمرار تزايد عدم المساواة وما يصاحبه من اختلالات اقتصادية واجتماعية. لذلك المنهج يجب أن يكون عمليا ومرحليا: تجارب محلية، قياس للأثر، وتوسيع السياسات الفعالة.
بعد سنوات من البحث في تاريخ الرأسمالية، ما هي المسألة التي لا يطرحها الاقتصاديون بما فيه الكفاية؟
أعتقد أن السؤال الناقص هو: كيف تتداخل الديناميكيات الاقتصادية مع العلاقات السياسية والأيديولوجية؟ الاقتصاديون يركزون كثيرا على الكفاءة أو النمو، لكن أقل ما يسألون عنه هو كيف تؤثر تركيبات الملكية والقوة (political economy of property) على القرارات الديمقراطية وعلى القواعد الاجتماعية نفسها.
ثانيا، هناك نقص في التركيز على البعد الدولي للثروة — كيف تؤثر أنظمة الضرائب الدولية وتدفقات رأس المال عبر الحدود على إمكانيات السياسات الوطنية. الإجابة على هذين السؤالين حاسمة لفهم لماذا بعض الحلول تبدو "غير قابلة للتطبيق" ولفتح طرق عملية لتصميم سياسات أكثر عدالة.