ذهبت الخيرات والبركة.. "المنقوشة" اللبنانية تنعي حظها بعد خصام الفقراء
لم تصبح "المنقوشة" وجبة الفطور المفضلة عند اللبنانيين، وجبة الفقراء، بعد تضاعف ثمنها 5 مرات، على وقع انهيار اقتصادي غير مسبوق.
وداخل فرنه الصغير في أحد شوارع منطقة رأس بيروت، يتحسر أبو شادي على "بركة" باتت مفقودة، بعد أن تضاعف ثمن "المنقوشة" 5 مرات.
أمام الفرن، أو "بيت النار" كما يسميه، يهندس أبو شادي (54 عاماً) مناقيش الزعتر والجبنة، ويتفنّن في نثر السبانخ الخضراء ورشّ الحرّ عليها، في إضافةٍ تميّزه عن سواه من الأفران وتجذب زبائن من مناطق أخرى، على حد قوله.
ويقول الرجل، وهو يرتدي ثياباً رياضية مع قبعة سوداء لوكالة فرانس برس "منذ عام 1987 وأنا على هذه الحال في هذا الفرن، بالبركة والخيرات، لكن اليوم ذهبت البركة وذهبت الخيرات".
وبينما يدخل العجين الى الفرن، يتلقى طلبيات عبر الهاتف مردداً "من عيوني" لكل متصل.. ثم يمازح زبوناً ينتظر في المحل تلبية طلبه، ويلوّح بيده لأحد معارفه أثناء مروره بسيارته في الشارع.. ويرفع نظره بين الحين والآخر ليرد على تحيات المارة أمام فرنه.
ولا يفوت أبو شادي، الذي يغنّي بصوت جهوري مرتفع أثناء تحضيره المناقيش، أن يلقي التحية بدوره على سيدة مسنة، متغزلاً بتصفيفة شعرها الأشقر.
لكنّ روح الدعابة التي تجعل كل من يقف أمام فرنه مبتسماً وتدفع أحد زبائنه الى تلقيبه بـ"الملك"، سرعان ما تتلاشى لدى سؤاله عن منقوشة الصعتر وارتفاع ثمنها.
ويشرح بإسهاب "المنقوشة هي بمثابة الأم والأب للشعب اللبناني، هي "أكل عيش" الغني والفقير".
لكن على وقع الانهيار الاقتصادي الذي يرزح تحته لبنان منذ خريف 2019، والتزامن مع شحّ في السيولة وارتفاع جنوني في الأسعار، تراجعت قدرة اللبنانيين الشرائية وخسر عشرات الآلاف وظائفهم أو جزءاً من مداخيلهم، وباتت سلع ومنتجات عدة من الكماليات، المنقوشة من بينها بالنسبة لكثيرين.
ويقول أبو شادي "للأسف في هذا الوقت، لم يعد الفقير قادراً على أكل المنقوشة".
ويتابع:" كان ثمن منقوشة الصعتر بين ألف و1500 ليرة أي ما يعادل دولاراً، وباتت اليوم 5 آلاف، لكنها لا تعادل نصف دولار"، بينما يصل سعر أصناف أخرى إلى 10 و15 ألفاً.
ويشهد لبنان أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة، تراجع معها سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار من 1500 إلى حوالي 12 ألفا في السوق السوداء.
مهما بلغ ثمنها
خلال أكثر من 3 عقود عمل فيها يومياً في الفرن، اعتاد أبو شادي خصوصاً في عطلة نهاية الأسبوع إقبال زبائن يطلبون 7 أو 8 مناقيش من الصعتر للفطور، لكن منذ شهرين أو أكثر لم يعد ير أياً منهم.
وأضاف: "باتت المنقوشة للميسورين فقط، فمن يجني 30 أو 40 ألفاً يومياً لن يدفع ثمن منقوشة الصعتر خمسة آلاف، وعليه مصاريف أخرى".
وعلى غرار كثر، لم يجد أبو شادي خياراً أمامه إلا رفع الأسعار، بعدما ارتفع ثمن كل المواد الأولية التي يحتاجها من زيت وطحين وصعتر وأجبان ومستلزمات الفرن من صحون وأوراق يلفّ بها المناقيش الساخنة.
وأشار إلى عبوتي زيت قائلا إن ثمن العبوة ارتفع من 86 ألف ليرة قبل الأزمة الاقتصادية إلى 980 ألفاً اليوم، جراء تدهور سعر صرف الليرة القياسي مقابل الدولار.
وأضاف: " كنّا بألف نعمة ولا نشعر بأزمة، لكن وضع الناس تدهور كثيراً.. لم تمرّ علينا مثل هذه الأيام".
وبعدما تنضج كل منقوشة، وتلمع فقاعات الزيت فيها، يخفّف أبو شادي النار داخل الفرن، توفيراً لمصروف الغاز.. ويتحسّر على أيام خلت كان يُشعل النيران عند الثامنة صباحاً ولا يطفئها قبل الثالثة عصراً.
على براد خلفه، علّق أبو شادي قائمة بالأسعار الجديدة، وعلى جدار قربها مقالاً باللغة الفرنسية داخل إطار خشبي، يقول إن صحيفة نشرته قبل نحو عامين تثني فيه على نكهة وجودة إنتاجه.
ويقول محمود بينما يلتهم منقوشة بالكفتة والجبنة لفرانس برس "أتردّد منذ سنوات الى هنا، من يعتاد على منقوشة أبو شادي لا يمكنه استبدالها بأخرى مهما بلغ ثمنها".
واسم أبو شادي، في رأي هذا الأخير، يجعله قادراً على الإستمرار رغم الأزمة، بينما أفران صغيرة أخرى تضطر لإقفال أبوابها تباعاً.
وبنبرة حزينة قال أبوشادي: أنه "بعد هذا العمر والاسم والتعب، ما زلت صامداً لأنني أعمل بيدي.. ما يدفعه سواي لعامل الفرن، آخذه وأعيش به".
وأضاف: " اتكالي على الله وعلى زندي" فقط.
aXA6IDE4LjIxNi4xNDUuMzcg جزيرة ام اند امز