الرسائل التي انبثقت عن لقاء الأخوة الإنسانية الذي احتضنته أبوظبي هي الأرضية التي يجب اعتمادها كخارطة طريق للمضي قدما في اتجاه تبني استراتيجيات واضحة.
عندما احتضنت دولة الإمارات العربية المتحدة لقاء الأخوة بين المرجع الكاثوليكي ممثلا في بابا الكنيسة الكاثوليكية فرنسيس وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف ممثلا للقطب المسلم، برعاية ولي العهد الشيخ محمد بن زايد، لم يكن ذلك مناسبة لأخذ صورة تذكارية أو مبادرة تدخل في سياق التسويق السياسي لدولة الإمارات، بقدر ما كان الحدث اعترافا ضمنيا بأن هناك أزمة قيم تتطلب تدخلاً من أعلى المرجعيات الدينية والسياسية لدى قطبي الرسالة السماوية، وهو ما يفترض انخراط الجميع لطرح الظاهرة على طاولة الرصد والتشريح، ومحاولة الخروج برؤى موحدة واستراتيجيات منسجمة تضع محاربة جميع مظاهر الإقصاء والتطرف كهدف أسمى، ولو تطلب الأمر إعادة توضيح مجموعة من التأصيلات الفقهية والدينية التي تنسب إلى هذه العقيدة أو تلك.
الرسائل التي انبثقت عن لقاء الأخوة الإنسانية الذي احتضنته أبوظبي هي الأرضية التي يجب اعتمادها كخارطة طريق للمضي قدما في اتجاه تبني استراتيجيات واضحة، للقضاء على مشاعر العنف والتطرف والتطرف المضاد
إن العمل الإرهابي الذي استهدف، غدرا، ضيوف الرحمن داخل بيتين من بيوت الله وفي أعظم أيام الله في منظر يمكن أن يرقى في تصنيفاته إلى خانة جرائم الإبادة، على اعتبار أنها استهدفت أشخاصا لاعتبارات دينية محضة، تأكد لنا أن هذا الهجوم الدموي لا يُشكّل تعبيراً سلوكيا منعزلا، بقدر ما يعكس ما يمكن أن يرقى إلى مستوى "الظاهرة"، في ظل الوقوف على قرائن قوية تؤكد وجود أياد لها أجندات "خبيثة" تحاول خلق الشروط الذاتية والموضوعية للاصطدام بين أهم كتلتين دينيتين في العالم.
في هذا السياق، يبقى من غير المقبول، من وجهة نظر جيوسياسية، إغفال السياق الزمني لهذه العملية الإرهابية والتي تزامنت مع عمليات القضاء والتطهير لآخر معاقل داعش في منطقة الباغوز، وهو ما يمكن أن يكون بمثابة الصعقات الكهربائية التي قد تعيد الحياة للتنظيمات المتطرفة من أمثال القاعدة وداعش، وتساعد في عملية الحشد والاستقطاب وإطالة زمن المواجهة مع هذه التنظيمات. وهذا يجعلنا نجزم بأن أسعد الجهات التنظيمية اليوم هي ولا شك الخلايا الإرهابية، والتي تعطيها مثل عمليات الإرهاب هذه مجالا زمنيا آخر للوجود، وخدمة مجانية تساعدها في مسلسل شرعنة وجودها، رغم ما يمكن أن تعبر عنه من تنديدها واستنكارها لعملية كرايست تشيرش بنيوزيلندا، في الوقت الذي تقطع فيه التأصيلات الفقهية والبناءات العقدية لهذه التنظيمات المتطرفة بكفر حتى ضحايا الحادث الإرهابي لمجرد أنهم فضلوا العيش في ظل أنظمة "كافرة ومرتدة"، وكذا رفضهم "الهجرة" إلى "دار الخلافة" المزعومة.
على الجانب الآخر، فإن مطالعة ما كُتب على سلاح الجريمة من معطيات تاريخية تُوثق لفترات متباعدة، يعطينا الانطباع بأن هذا الإرهابي المجرم سبق وأن خضع لمنظومة الاستقطاب والتجنيد التي تشبه تلك التكتيكات التي تلجأ إليها التنظيمات الإرهابية التي تدعي أنها إسلامية، كما أن إعادة اجترار حوادث تاريخية تعود لقرون مضت تعطينا فكرة عن أزمة القيم المرتبطة بعدم التشبع بقيم التسامح والتي تُعد مدخلا أساسيا لنبذ هذه الإرهاصات التاريخية والقطع معها في أفق رسم معالم بيئة دولية تستوعب الجميع وتقبل بالآخر المخالف مهما كان جنسه أو عرقه أو دينه.
إن معاول الهدم التي ترفض قيم التسامح التي جسدتها "وثيقة الأخوة الإنسانية" على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة، دفعت بأصحاب نظرية صدام الحضارات ليركبوا على الحادث نفسه لمحاولة التأكيد، عبثا، على أن هذه النظرية تجد ما يسندها على أرض الواقع وأنها ليست مجرد كلمات سطرها صامويل هنتنجتون في كتابه "صدام الحضارات" سنة 1996 في أعقاب نهاية الحرب الباردة وسقوط الثنائية القطبية، واستمرار البحث عن عدو "افتراضي" يمكن أن يكون الشماعة التي يعلق عليها الغرب بعض الاختيارات التي قد لا ينظر إليها الرأي العام الداخلي بعين الرضا.
ولعل مقاربة الحادث بعيون البحث والتحليل، تجعلنا ندفع في اتجاه ضرورة استحضار الواجب الأخلاقي لدى الغرب لالتقاط الإشارات والتحلي بالشجاعة السياسية والدينية للاعتراف، على الأقل، بأن الظاهرة الإرهابية هي ظاهرة كونية، وارتبط وجودها بوجود الإنسان على وجه الأرض، وبأنها ليست علامة مسجلة يُمكن أن تُنسب لدين معين أو لعرق بعينه.
وهنا نسجل رفضنا لمحاولات الاختباء وراء الدوافع الشخصية لهذا الهجوم الإرهابي الذي ترفضه جميع الرسالات السماوية والمواثيق الوضعية، ومن ثم ضرورة الاعتراف بأن جزءا من المنظومة الغربية (وهم أقلية على العموم) يعيش أزمة قيم وأزمة اعتراف يجب وضعها على طاولة التشريح والبحث ومحاولة معالجتها، ما قد يشكل مدخلا صحيا لطرح نقاش صريح وهادئ حول محددات الاستراتيجية الممكن طرحها للقضاء على هذه النزعات المتطرفة على المستوى التكتيكي المتوسط والقريب، ومن ثم العمل، استراتيجيا وضمن تنسيق دولي، على القضاء على البيئة المنتجة والمصدرة لأفكار الإرهاب والإقصاء والتطرف.
إن الرسائل التي انبثقت عن لقاء الأخوة الإنسانية الذي احتضنته أبوظبي هي الأرضية التي يجب اعتمادها كخارطة طريق للمضي قدما في اتجاه تبني استراتيجيات واضحة، للقضاء على مشاعر العنف والتطرف والتطرف المضاد، وهو ما يشكل مدخلا لبناء مستقبل للعيش المشترك قادر على استقبال الأجيال المقبلة ضمن شروط للتعايش وقبول الآخر ورافض لجميع أشكال الإقصاء والعدمية والتطرف وهي المحددات والأسس لتشييد معالم بيئة كونية مستقرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة