تتجه البيئة السياسية في الشرق الأوسط اليوم إلى اعتماد مقاربات جديدة بين دوله المحورية حول قضايا المنطقة، أبرزها أن الحوار يمكن أن يصير بديلا ناجحا لسياسة المحاور والتمحور التي باتت سمة السنوات العجاف الأخيرة.
وهي السمة التي رسمت صورة قاتمة للإقليم ونظرة متشائمة لمستقبله امتدت لنحو عقد كامل من الزمان.
فقراءة سريعة لخريطة التفاعلات السياسية والدبلوماسية بين عواصم الإقليم الرئيسية تنبئ ببروز مساع ملموسة للتقارب والتصالح وإعلاء المصالح الوطنية على التجاذبات السياسية وإرساء مبدأ الحوار والتشاور حول القضايا الخلافية نهجا للتعاطي معها وصولا إلى حلول دبلوماسية لها.
لم تكن أسباب هذه التحولات السريعة في المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط نتيجة عوامل نابعة من داخل دول الإقليم وحدها، لكن جاءت أيضا استجابة لتحولات أعمق في البيئة الدولية واتجاه بعض القوى الكبرى للانشغال بقضاياها وإعادة ترتيب أولويات سياستها الخارجية وتفكيك ارتباطها بمنطقة الشرق الأوسط وتخفيف التزاماتها تجاه كثير من القضايا المتعلقة بأمن واستقرار الإقليم، وكذلك سلامة وأمن حلفائها، والانسحاب سياسيا من بعض قضايا المنطقة والانسحاب عسكريا من بعض مناطقها دون دراسة جيدة لعواقب الانسحاب وتداعياته الكارثية، الأمر الذي دفع عقلاء دول المنطقة لإعادة هندسة علاقاتهم وسياساتهم الخارجية بما يضمن رفاه شعوبهم في ظل بيئة محيطة محفوفة بالمخاطر، لكنها مليئة أيضا بالفرص من جهة، وتخفيف تداعيات التحولات العميقة في البيئة الدولية التي تلت انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة من جهة أخرى.
وهذا ما يفسر الدبلوماسية النشطة لزعماء الإقليم والتي شهدتها عواصمه الرئيسية خلال الأشهر القليلة المنصرمة.
في هذا الإطار جاء استقبال قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في أول زيارة له إلى الدولة الخليجية منذ عام 2013، وهي الزيارة التي شهدت تباحثا "حول العلاقات الثنائية والآفاق الجديدة الواعدة للتعاون والعمل المشترك بين الإمارات وتركيا في مختلف المجالات التي تخدم مصالحهما المتبادلة، إضافة إلى مجمل القضايا والتطورات الإقليمية والدولية التي تهم البلدين".. وتوقيع عدد كبير من اتفاقيات التعاون ومذكرات التفاهم بين جهات عدة في الإمارات ونظيراتها في تركيا بهدف تعزيز التعاون وتوسيع الشراكات بين البلدين في مجالات الاستثمار والصحة والزراعة والنقل والصناعات والتقنيات المتقدمة والعمل المناخي وغيرها، والأهم من ذلك كان البيان المشترك بشأن النية في البدء باتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين البلدين، وخطاب النيات بشأن التعاون في الصناعات الدفاعية.
استقبال أردوغان في أبوظبي ودبي كان ترسيخا لعهد جديد من العلاقات بين البلدين دشنته الزيارة التاريخية للشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، إلى الجمهورية التركية في نوفمبر الماضي تلبية لدعوة من الرئيس التركي، والتي بحثت "العلاقات الثنائية وسبل تعزيز التعاون والعمل المشترك بين البلدين في مختلف المجالات بما يحقق مصالحهما المتبادلة".
هذه الزيارة كانت محطة رئيسية في طريق عودة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها وفتح صفحة جديدة عنوانها تعظيم المصالح المشتركة والجوانب المتبادلة بين البلدين ومحاولة تقريب وجهات النظر المتباينة حول عدد من القضايا الإقليمية عبر آلية الحوار المتواصل والنقاش الجاد والصريح.
الزيارة، وكذلك الاستقبال، تنطلقان من قناعة إماراتية راسخة بضرورة تعزيز التعاون والتواصل مع القوى الفاعلة كافة في الإقليم، بما يضمن الاستقرار والازدهار للأطراف كافة.
لذا كانت المصالح الاقتصادية المشتركة للبلدين هي المتصدر لملفات زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى تركيا وزيارة أردوغان إلى الإمارات في ظل ما يحظى به البلدان من فرص استثمارية هائلة وما يتمتع به اقتصاد البلدين من إمكانيات.
ومن أبرز البنود التي نوقشت في الزيارتين فتح طريق تجاري بين البلدين عبر إيران بهدف اختصار مدة الرحلات التجارية إلى 8 أيام بعد أن كان نقل البضائع من ميناء الشارقة بالإمارات إلى ميناء مرسين التركي عبر مضيق باب المندب وقناة السويس والبحر الأحمر يستغرق 20 يوما.
فالاقتصاد الآن أصبح هو الذي يقود السياسة والمصالح المشتركة أصبحت هي التي ترسم السياسات الخارجية، ورفاهية الشعوب أصبحت تتقدم على ما عداها، وخلافات السياسة يمكن أن تتوارى خلف مصالح الشعوب.
ففي ظل توترات السياسة لم تنس الإمارات الشعب التركي في أزمته جراء الأمطار الغزيرة والسيول الجارفة والفيضانات التي ضربت مناطق تركية عدة، وحرائق الغابات العنيفة التي دمرت مئات الهكتارات في أغسطس الماضي.
وقتها أصدر الشيخ محمد بن زايد آل نهيان قرارا بتقديم دعم قيمته 36.7 مليون درهم للمناطق المتضررة تضامنا مع الشعب التركي في تلك الظروف غير العادية، انطلاقا من مبدأ إماراتي راسخ وهو دعم الدول والشعوب في المواقف التي تتطلب التضامن والتعاون.
كما نلحظ أنه على الرغم من الاختلاف في وجهات النظر بين البلدين خلال السنوات القليلة الماضية حول بعض القضايا، فإن العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين لم تتأثر، بل ربما تحسنت كما تقول بذلك بعض الإحصاءات، حيث بلغت قيمة التجارة بين البلدين في النصف الأول من عام 2021 أكثر من 26.4 مليار درهم بقفزة نمو بلغت 100 بالمائة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020، وهو الأمر المرشح لمزيد من النمو خلال السنوات المقبلة في ظل الخطط والأهداف الاستثمارية الكبيرة والجادة للإمارات في تركيا، كما أعلن الرئيس التركي بنفسه في أغسطس الماضي عقب لقائه مستشار الأمن القومي الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد، وفيما تأتي تركيا في المرتبة الحادية عشرة بين أكبر الشركاء التجاريين لدولة الإمارات، تمثل الأخيرة الشريك التجاري الثاني عشر لتركيا عالميا والشريك التجاري الأكبر خليجيا وعربيا.
أما فيما يتعلق بالتباحث حول القضايا الإقليمية والدولية التي تهم البلدين، فإن الزيارتين ستنعكسان حتما وإيجابا على أزمات المنطقة المفتوحة، من ليبيا غربا حتى العراق شرقا مرورا بسوريا واليمن وتونس والسودان وإيران وأفغانستان وشرق المتوسط وغيرها من الملفات التي كان بعضها محل تباين في وجهات النظر بين البلدين خلال السنوات القليلة الماضية.
هي أزمات أثبت مسار تطور وتصاعد بعضها وتهديده لأمن واستقرار المنطقة ضرورة لانفتاح دول المنطقة كافة، ولا سميا الأطراف الفاعلة فيها على بعضها، والاعتماد على ذاتها، وتبني منطق الحوار الإيجابي والتواصل الفعال فيما بينها بشأن أي تباين في وجهات النظر حول قضايا المنطقة للالتقاء في منتصف الطريق عبر سياسات هادئة وهادفة ومنفتحة تعزز من أوجه الاتفاق وتقلص من مساحة الاختلاف وتراعي مصالح كل الأطراف وتضمن عقودا مقبلة من الاستقرار والازدهار الإقليمي.
نقلا عن سكاي نيوز عربية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة