توصلت إيران وأمريكا إلى صيغة تفاوضية جديدة تضمنت تجاوبا أمريكيا حذرا لمتطلبات طهران، كـ"إعادة العمل بإعفاءات برنامجها النووي المدني"، وهي خطوة لعودة اتفاق 2015.
رغم ذلك، فإن الأمر ليس سهلا كما يتصور البعض، صحيح هناك مسودة يجري العمل عليها منذ بدء المفاوضات الأخيرة، لكن مراوغات إيران تشعبت ومضت في اتجاهات مختلفة، ما أثر بالفعل على مسارات التوصل إلى اتفاق حقيقي حتى اللحظة، وهو ما برز في سرعة الحركة الإيرانية لتوظيف مناخ المفاوضات الجاري، ووجود إرادة سياسية أمريكية للتوصل إلى اتفاق معها وفق قاعدة استراتيجية تفاوضية "الكل فيها رابح"، وعدم الوصول إلى مفاوضات جزئية، أو مرحلية، خاصة مع ترابط ملفات إقليمية ودولية بصورة واضحة، فما يجري من تطورات في الملف الأوكراني، والحركة الغربية، التي عبرت عنها دول مثل فرنسا وألمانيا، إضافة إلى دول شرق أوروبا، يؤكد أن ما يجري في مفاوضات النووي الإيراني سينعكس على مواقف الأطراف الأخرى، الأمر الذي يعطي دلالات مهمة في سياق التعامل اللاحق مع إيران في العملية التفاوضية، وفي المرحلة التالية إذا تم الاتفاق أصلا ومضت الدول الكبرى في التعامل مع طهران، وموقف الإدارة الأمريكية الراهنة من رصد وحسم المسائل المرتبطة بالاتفاق الذي سيُمرَّر.
واقعيا ستواجه الإدارة الأمريكية إعصارا حقيقيا في الداخل، فالكونجرس لن يسمح بالتوصل إلى اتفاق دون موافقته أو تمريره انطلاقا من آلية دستورية، ووفق النظام الفيدرالي، وهو ما يُزعج الرئيس جو بايدن وفريق المفاوضين، الذين يسعون لتمرير التفاوض والاتفاق بصورة مباشرة، وهو أمر لا يجوز، لاعتبارات متعلقة بالعرض الفيدرالي أولا، وخلال خمسة أيام من التوصل إلى اتفاق، أيا كان شكله أو إطاره، وهو ما يدركه الرئيس بايدن، الذي يريد اتفاقا مع إيران قبل إجراء انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، وذلك ليحقق مكاسب سياسية في إطار الصراع الراهن داخل الكونجرس حول أولويات العمل والتعامل، لذا يناور "بايدن" في دائرة محددة تركز على إعادة ترتيب الأولويات والحسابات السياسية والاستراتيجية، ومن هنا أعلنت الإدارة الأمريكية عن قرب إعداد استراتيجية كاملة للتعامل في بقاع العالم ودوائر الاهتمام للسياسة الأمريكية، بعد أن كان "بايدن" أعلن استراتيجية مؤقتة في بدايات العمل، ولكنها ليس باستراتيجية كاملة مثلما فعل سابقه "ترامب" عام 2017، وبالتالي فإن الرئيس الأمريكي -في خضم ما يجري من تطورات في المفاوضات الجارية مع إيران- يريد حسم معركة الداخل قبل التوصل إلى اتفاق كامل ودائم مع إيران، فما زالت قيادات الحزب الجمهوري رافضة للتوصل إلى اتفاق، وما زالت المحاولات مركزة على الخروج من التفاوض، ولم تتغير قناعات الجمهوريين مما يجري، ومن ثم فإن تحديات التصويت في مجلس الشيوخ ستكون مهمة في هذا الإطار، ولن تكون سهلة، بل سيواجَه بخطر حقيقي لتمرير الاتفاق من الداخل في ظل تحركات مهمة وجوهرية للوبي يساند إسرائيل في مجلسي الشيوخ والكونجرس معا، خاصة أن إسرائيل كثفت وجودها قرب أجواء التفاوض وما تزال تتبنّى سياسات انفرادية مهمة في هذا السياق، وهو ما تعاملت معه الإدارة الأمريكية بذكاء شديد عبر القبول بتكثيف التفاوض على المستويين السياسي والأمني، مع الإقرار الإسرائيلي في الخطابين الإعلامي والسياسي بحرية التصرف، والعمل بصورة انفرادية مع أي تطور جارٍ أو منتظر، وهو ما قد يدفع الدوائر الأمريكية لدخول إسرائيل على الخط في لحظات معينة لإفساد مسارات التفاوض.
اللافت أن الإدارة الأمريكية راغبة في الإبقاء علي الخيار الإسرائيلي في أي تعاملات عند الضرورة، وحال فشل المفاوضات أو الخروج بحلول جزئية لا تُرضي الداخل الأمريكي، ليس الكونجرس فقط، بل ومجلس الشيوخ أيضا، ما يعني فشل المفاوضات أو العجز عن تمرير الاتفاق أو تسويقه فعليا، وهو أمر يجب وضعه في الاعتبار في ظل تحولات المشهد الدولي الراهن، وارتباط ملف أوكرانيا بالملف النووي الإيراني بالتحركات الإقليمية والدولية، ودخول دول حلف الناتو على الخط في إطار دمج الملفات، أو على الأقل محاولة المقايضة على إطارها العام، ما يؤكد أن القوى الدولية الكبرى ليست بمنأى عما يجري، وقد يكون لها دور في التوصل إلى الاتفاق، خاصة أن الإشكاليات قائمة ومهمة وأخطرها التخوف من عدم التصديق على الاتفاق -إن تم التوصل إليه- وهو ما سيدفع الرئيس الأمريكي المقبل في 2025 إلى عدم الاعتراف به والخروج عنه، وهو ما قد يقلق الجانب الإيراني في ظل تأكيد اشتراط المفاوض الإيراني بالحصول على تعهدات مكتوبة من الإدارة الأمريكية لمنع تكرار ما جرى من خروج الولايات المتحدة من الاتفاق في فترة الرئيس السابق "ترامب".
هذا الأمر قد يتكرر مع أي رئيس أمريكي قادم في الولاية المقبلة، سواء كان ديمقراطيا أو جمهوريا، حيث لا توجد ضمانات، كما أن الجانب الأمريكي ما زال يتعامل مع التخوف الإسرائيلي من احتمالات إسراع إيران في الوصول للقنبلة النووية في غضون أشهر، الأمر الذي سيعني أن الطرفين في حاجة إلى إجراءات بناء ثقة ما تزال غائبة، إذا ما تذكرنا أنه لا قيود بالفعل على إيران لوقف أنشطتها وممارساتها في الإقليم، وما تمثل من خطر على استقرار المنطقة، ومن ثم فإن الشروط الإسرائيلية والقيود الفيدرالية للكونجرس ومجلس الشيوخ ستدفع بضرورة التعامل مجددا مع واقع المفاوضات الراهنة والتسريع بالتوصل إلى اتفاق بعيدا عما يقال من توصل الجانبين إلى بنود الاتفاق، وأن مرحلة الاقتراب من التفاوض حُسمت، فالأمر ليس هكذا، وإنما هو يتعلق بالتخوفات التي تبديها كل الأطراف المعنية، والتي تتشكك في السلوك الأمريكي في التفاوض وحساباته، دون مراعاة للضوابط والمعايير، التي سيعمل عليها الاتفاق، حال التوصل إليه في الفترة المقبلة.
ستظل الإدارة الأمريكية تقدم تنازلات لإيران لدفعها للتفاوض، ولكن السؤال: ما الضمانات التي يمكن أن تحصل عليها إدارة متعجلة وساعية لتحقيق مكاسب سريعة ووقتية في إطار التخوف من نتائج انتخابات التجديد النصفي؟
هذا التعجُّل قد يدفع إدارة "بايدن" للمقامرة في ملفات أخرى كـ"الوضع في أوكرانيا" و"الحرب على الإرهاب"، ومع إيران وروسيا والصين، وسيبقى الأمر في مجمله -إن تم التوصل إلى اتفاق نهائي مع إيران- بيد الكونجرس ومجلس الشيوخ، وبتطورات الموقف الإسرائيلي على الأرض، ومدى تقاربه أو تباعده عن الموقف الأمريكي، قبل وبعد التوصل إلى اتفاق كامل مع إيران.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة