الهجوم الذي تشنه الإدارة الأمريكية في مجال التجارة بات لا يهدد في الحقيقة النظام التجاري الدولي فقط
الهجوم الذي تشنه الإدارة الأمريكية في مجال التجارة بات لا يهدد في الحقيقة النظام التجاري الدولي فقط، بل هو يهاجم ويهدد في العمق فلسفة التجارة الحرة ذاتها، على الرغم من أن بعض معاوني الرئيس ترامب يكررون أن الرئيس ليس ضد حرية التجارة، ولكنه ضد التجارة غير العادلة.
ويعبر ترامب، في حقيقة الأمر، عن نظرة "قومية اقتصادية" عتيقة الطراز ترى أنه لا بد من تحقيق فائض (أو توازن على الأقل) في التعامل التجاري مع الخارج، ومن هنا تكون الحمائية هي الفلسفة التي توجه عمله من أجل تحقيق هذا الهدف.
والمفارقة الحقيقية في هذا السياق هي أنه غالبا ما يتم التركيز على أن الولايات المتحدة هي أكبر سوق مستورد في العالم، بينما يغض الطرف عن أنها في الوقت ذاته ثاني أكبر مصدر للسلع والخدمات في العالم بعد الصين أي أنها مستفيد كبير أيضا من التجارة الحرة.
إلى جانب الحرب التجارية القائمة بين الولايات المتحدة والصين، هناك العديد من الأنباء عن أن البيت الأبيض يتداول أمر توسيع الحرب التجارية لكي تصبح حربا في مجال التدفقات المالية أيضا. حيث تناقش الإدارة وضع قيود على حركة رأس المال بين الولايات المتحدة والصين
وإلى جانب الحرب التجارية القائمة بين الولايات المتحدة والصين، هناك العديد من الأنباء عن أن البيت الأبيض يتداول أمر توسيع الحرب التجارية لكي تصبح حربا في مجال التدفقات المالية أيضا. حيث تناقش الإدارة وضع قيود على حركة رأس المال بين الولايات المتحدة والصين.
ولذا تبدو هذه التحركات بمثابة انتقال كبير من الموقف الأمريكي التقليدي المتبني لنظام السوق الحر، فالمسؤولون في الولايات المتحدة -كما تقول وكالة بلومبرج- كانوا دعاة باستمرار لفتح الأسواق المالية في جميع أرجاء العالم أمام حركة رأس المال.
وتضيف الوكالة أن المداولات والمشاورات التي تجري في الإدارة لا تحدث في عزلة، فبعض المؤيدين الأعلى صوتا للرسوم الجمركية التي فرضها ترامب هم أيضا من المناصرين لوضع قيود على حركة رأس المال للحد من وصول الصين للنظام المالي الأمريكي القوي.
وكانت وكالة رويترز للأنباء قد ذكرت يوم الجمعة الماضي أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يدرس إمكانية إلغاء إدراج شركات صينية بالبورصات الأمريكية، فيما قد يصبح تصعيدا جذريا لتوترات التجارة بين البلدين. وذكر مصدر لوكالة رويترز أن هذه الخطوة ستأتي في إطار جهد أوسع نطاقا للحد من الاستثمارات الأمريكية في الصين. وكان الرئيس الأمريكي في وقت سابق وفي إطار تصعيد هجومه على الصين قد أصدر توجيها للشركات الأمريكية العاملة هناك بالعودة للعمل في الولايات المتحدة.
وتتعارض هذه التوجهات -كما سبق الذكر- مع الموقف التقليدي للولايات المتحدة تحت راية العولمة الاقتصادية من تبني الدعوة إلى اقتصادات السوق الحر وفي القلب منها حرية التجارة وحرية حركة رأس المال باعتبارها السبيل الأيسر لتحقيق الرفاه لدول وشعوب العالم، حيث تذهب نظرية التجارة إلى أن التجارة الحرة تزيد من مستوى الرفاهية في جميع البلدان التي تتبناها، نتيجة التخصص وتقسيم العمل؛ إذ تميل البلدان التي تتمتع بوفرة في عنصر العمل للتخصص في إنتاج السلع التي تتطلب عمالة كثيفة في إنتاجها، بينما تتخصص الدول ذات الوفرة في رأس المال في إنتاج السلع كثيفة رأس المال، وعبر التجارة وتبادل كلا النوعين من السلع تزيد كل من مجموعتي البلدان من رفاهها عما لو قامت بإنتاج كلا النوعين من السلع بنفسها. ومن هنا، فانسحاب ترامب من الاتفاقات الدولية كاتفاقية الشراكة عبر الهادئ مثلا لأنها على حد تعبيره تضع الولايات المتحدة في منافسة مع أقل بلدان العالم من حيث مستوى الأجور، كفيتنام، هو ضربة في الصميم لكل الوعود التي أطلقتها نظرية التجارة الحرة على مدى التاريخ.
وبعد أن قضت نظرية التجارة الدولية ردحا طويلا من الزمن تعزز في جميع نماذجها من الدعوة لتحرير التجارة باعتبارها مدخلا لزيادة مستوى الرفاهية في جميع البلدان التي تتبناها، فإن جميع هذه النماذج كانت تميل أيضا في الوقت ذاته إلى النص على عدم انتقال عناصر الإنتاج بين الدول كواحد من الفروض الرئيسية التي تستند إليها.
وتم لاحقا تخفيف هذا الشرط وتم السماح بانتقال عناصر الإنتاج، فكانت الخلاصة النظرية التي تم التوصل إليها هي أن هناك إحلالا بين التجارة الدولية في السلع وحرية انتقال عناصر الإنتاج بين الدول. بمعنى أنه حينما تسود التجارة الحرة وتنتقل السلع بين الدول بناء على تكلفتها النسبية تتم تسوية أسعار السلع الداخلة في التجارة، وبالتالي تتم تسوية أسعار عناصر الإنتاج (الأجر للعمل والفائدة لرأس المال).
وقد تم تدريجيا تحدي هذه النظرية سواء على المستوى النظري أو على مستوى الممارسة العملية بدءا من ستينيات القرن الماضي؛ إذ أشار البعض إلى أن انتقال عناصر الإنتاج على المستوى الدولي يطرح صعوبات سياسية أكبر من التجارة الدولية، حيث تكون تحركات عناصر الإنتاج عرضة لقيود أكثر من القيود المفروضة على التجارة في السلع. فالقيود على هجرة العمل تكاد تكون كونية. وحتى الثمانينيات كان هناك العديد من البلدان بما فيها بعض البلدان الأوروبية، مثل فرنسا، تبقى على قيود على حركات رأس المال على الرغم من أنها واقعيا تتبنى التجارة السلعية الحرة مع جيرانها. كما أن الاستثمارات ذات الأصل الأجنبي للشركات متعددة الجنسيات كان يتم النظر لها بعين الشك وكانت تنظم بإحكام في الكثير من بلدان العالم. والنتيجة هي أن تحركات عناصر الإنتاج ربما ظلت في الممارسة أقل أهمية من التجارة في السلع لبعض الوقت. وعلى وجه خاص في الحقيقة حرية عنصر العمل؛ إذ كانت الدول المتقدمة دائما تضغط من أجل فتح أسواق الدول النامية أمام الانتقال الحر لرأس المال، بينما ظلت هناك قيود شديدة على حرية حركة عنصر العمل من البلدان النامية للبلدان المتقدمة.
وبينما تم التأكيد على أنه في الممارسة تحل التجارة بالفعل محل انتقال عناصر الإنتاج، إلا أنها لا تحل محلها إحلالا تاما. فالتسوية التامة في أسعار عناصر الإنتاج لا تلاحظ في العالم الحقيقي بسبب الاختلاف بين البلدان فيما تملكه من موارد، علاوة على وجود قيود على التجارة، كما أن هناك اختلافات في مستويات التكنولوجيا بين البلدان المختلفة.
وبشكل محدد وكما يبرهن التاريخ، يمكن القول إن عنصر العمل كان أبعد مما يمكن وصفه بأنه كان حرا في الانتقال حقا. وكان ذلك ملحوظا بشكل خاص منذ تم التوجه نحو فرض "توافق واشنطن" وسقوط دول الكتلة السوفيتية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي وانطلاق عملية العولمة، وهو ما فتح المجال أمام حرية أكبر لحركة رأس المال. وقد سمحت حركة انتقال رأس المال هذه وبالذات إلى حيث يوجد العمل الكثيف بتحقيق معدلات نمو غير مسبوقة في عدد من البلدان يأتي على رأسها الصين ذاتها.
الانتقال إذا من حرب التجارة السلعية التي تستند إلى زيادة الرسوم الجمركية إلى محاولة وضع قيود أمام حركة رأس المال وقيام حرب في مجال التدفقات المالية يعني الابتعاد التام عن نظرة اقتصادية سادت طويلا، كما أنه يعني الابتعاد عن العولمة الاقتصادية التي سادت العالم منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة