عبر ترامب في العديد من خطاباته أثناء حملته الانتخابية عن عدم رضاه عن الاتفاقات التجارية الدولية التي تشارك فيها بلاده
وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتقادات حادة للممارسات التجارية للصين في كلمته التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الثلاثاء الماضي. وجاء في كلمة ترامب أن بكين فشلت في الوفاء بوعود قدمتها عندما انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، وأنها متورطة في ممارسات لاستغلال الآخرين كلفت الولايات المتحدة ودولا أخرى ملايين الوظائف. ويعيد الرئيس الأمريكي بذلك طرح وجهة نظره الأساسية التي روج لها أثناء تنافسه على المقعد الرئاسي عام 2016.
إن ما يهدد توفير المزيد من فرص العمل الآن في الولايات المتحدة وغيرها من بلدان العالم هو تزايد فرص حالة التباطؤ الاقتصادي التي ساهم فيها بشكل كبير تصاعد حرب التجارة الأمريكية الصينية.
فقد عبر ترامب في العديد من خطاباته أثناء حملته الانتخابية عن عدم رضاه عن الاتفاقات التجارية الدولية التي تشارك فيها بلاده باعتبارها اتفاقات مجحفة بحق الولايات المتحدة. حيث تتسم المنافسة التجارية بعدم العدالة وتلجأ الكثير من الدول إلى التحايل لتحقق فائضا تجاريا مع الولايات المتحدة، لتضر بالاقتصاد الأمريكي وتعوق نموه وازدهاره. إذ علاوة على معاناة الولايات المتحدة من عجز ضخم في ميزانها التجاري، فإن هذه التجارة غير العادلة تسلب أيضا الملايين من فرص العمل التي كان ينبغي توفرها للأمريكيين.
وربما كانت أوضح خطابات الحملة الانتخابية في هذا الصدد، هي الخطبة التي ألقاها ترامب في ولاية بنسلفانيا التي عانت من إغلاق عدد من مصانع الصلب وغيرها من الصناعات. ومن أبرز ما جاء في هذا الخطاب قول ترامب إنه حينما "تم إغراق الصلب الأجنبي في أسواقنا، مهددا مصانعنا، لم يفعل السياسيون شيئا. ولسنوات عديدة، كانوا يشاهدون الموقف دون أن يعيروا أي اهتمام باختفاء وظائفنا ومعاناة مجتمعاتنا من بطالة تماثل مستوى بطالة فترات الكساد". وأكد ترامب أيضا أن موجة العولمة قد محت تماما الطبقة الوسطى الأمريكية.
وعزى ترامب حدوث ذلك إلى سماح الولايات المتحدة للدول الأجنبية بدعم سلعها، وتخفيض سعر صرف عملاتها، وانتهاك الاتفاقات، والغش بكل طريقة ممكنة، ونتيجة لذلك تدفقت تريليونات من الدولارات الأمريكية وملايين من الوظائف نحو الخارج. ووفقا لحسابات ترامب خسرت أمريكا ما يقدر بنحو بين الثلث إلى نصف الوظائف الصناعية خلال العشرين عاما الأخيرة فقط.
وفي تأكيده على محورية التجارة كحل للمشكلات الاقتصادية الأمريكية أشار إلى أن الدستور الأصلي الأمريكي لم يكن حتى يشتمل على ضريبة دخل، بل بدلا من ذلك كان به رسوم جمركية، وهو ما يعني التركيز على فرض الضريبة على الإنتاج الأجنبي، وليس المحلي. ولكن حسب رأيه فإنه وبعد 240 سنة من الثورة، قام السياسيون بقلب الأمور رأسا على عقب. وبالتالي فما حدث هو التدخل في عمل وتقييد حرية الشركات الأمريكية إلى حد الموت، مع السماح في الوقت نفسه للدول الأجنبية بأن تغش لكي تصدر سلعها للولايات المتحدة بدون أن تفرض عليها رسوم جمركية.
والحقيقة أن التيار السائد في الدراسات الاقتصادية في الولايات المتحدة ذاتها وهو تيار الاقتصاديون الكلاسيكيون المحدثون لا ينكر إمكانية حدوث بطالة نتيجة لتحرير التجارة. بل إن هؤلاء الاقتصاديين يشيرون إلى أن الظروف التي يحدث فيها ذلك تعد شائعة. فكل ما هو مطلوب هو أن يكون سوق العمل منقسما بدلا من أن يكون متكاملا ومندمجا. وهناك نوعان من الانقسام شائعان في سوق العمل هما الانقسام الجغرافي والانقسام الوظيفي. فالانقسام الجغرافي يتحقق حينما تكون القطاعات التي تتقلص أو تتوسع في أقاليم مختلفة داخل بلد محدد (كتأثر صناعة الصلب في ولاية بنسلفانيا مثلا، أو صناعة السيارات في ولاية ميتشجان)، وتكون هناك إضافة إلى ذلك عوائق مادية أو نفسية أمام حراك القوى العاملة.
والانقسام الوظيفي من جهة أخرى يحدث حينما تكون المهارات المطلوبة في القطاعات الاقتصادية مختلفة. فالعمالة التي يتم الاستغناء عنها في أحد القطاعات نتيجة للتجارة لا يمكن إعادة توظيفها في القطاعات الأخرى، بدون إعادة التدريب المناسبة. ويتطلب ذلك بالطبع بعض الوقت.
وكل من هذين النوعين من الانقسام أو أي مزيج منهما من الممكن أن يؤدي إلى بطء التعديلات التي تتم في سوق العمل وإلى البطالة لفترة انتقالية. ويعتمد طول هذه الفترة الانتقالية على مدى حدة العوائق أمام الحراك الجغرافي ومدى عدم التطابق في نوعية المهارات المطلوبة في القطاعات الاقتصادية المختلفة.
المؤكد إذا هو أن السياسة التجارية تنتج تغييرا في تركيب العمالة. كما أن العلاقة الديناميكية بين التجارة والنمو يمكن أن تؤدي أيضا إلى تغيير مستوى العمالة. ويجادل الاقتصاديون الكلاسيكيون المحدثون بأن تحرير التجارة لا يؤدى فقط إلى كفاءة أكبر في تخصيص الموارد، وإنما إلى تراكم أكثر سرعة في عوامل الإنتاج من عمل ورأس مال، ويؤدي بالتالي إلى سرعة النمو الاقتصادي.
غاية ما يذكره إذا هؤلاء الاقتصاديون الكلاسيكيون المحدثون أنصار حرية التجارة أنه يمكن حدوث بطالة، ولكنها تكون لفترة مؤقتة من الوقت وتعتمد على مدى مرونة الاقتصاد موضع الدراسة، ولكن في كافة الأحوال تكون المكاسب المتحققة من التجارة الحرة للبلد ككل حتى في مجال إتاحة فرص العمل أكبر من هذه الخسارة العابرة أو المؤقتة في فرص العمل الناجمة عنها.
والواقع أن ما يمنح تأييدا لهذه الأفكار هو أن الولايات المتحدة الآن تتمتع بأقل معدل بطالة في خمسين عاما، حيث يبلغ 3.7% وقد حدث هذا بمعزل عن موقف ترامب من قضية التجارة ولم تساهم حروب التجارة فيه، بل هو نتيجة لأطول فترة من النمو والتوسع الاقتصادي تشهدها الولايات المتحدة.
فمعدل البطالة لم يكف عن الانخفاض في الواقع منذ نحو عشرة أعوام. أما ما قامت به الإدارة الأمريكية منذ اختارت في أبريل/نيسان 2017 فرض رسوم على واردات الصلب والألومنيوم من كافة دول العالم، مرورا منذ أكثر من عام بحرب الرسوم الجمركية المفتوحة مع الصين لتحقيق ما وعد به ترامب أثناء حملته الانتخابية، فلم يكن بأي حال هو الأساس في تحقيق معدل التشغيل الراهن في الولايات المتحدة الأمريكية. بل إن ما يهدد توفير المزيد من فرص العمل الآن في الولايات المتحدة وغيرها من بلدان العالم هو تزايد فرص حالة التباطؤ الاقتصادي التي ساهم فيها بشكل كبير تصاعد حرب التجارة الأمريكية الصينية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة