حرب التجارة بين واشنطن وبكين.. لنظريات العلاقات الدولية رأي آخر ( 2-2)
نجحت نظرية "استقرار الهيمنة" في تفسير التحولات التي شهدها النظام العالمي خلال مراحل مختلفة، بالاعتماد على وجود/غياب "الهيمنة"
مقولات نظرية "استقرار الهيمنة" -كما سبق تناولها- تساعدنا في فهم ليس فقط ما اصطلح عليه "الحرب التجارية" الجارية بين الولايات المتحدة والصين، لكنها -وذلك هو المهم- تساعدنا في وضع هذه "الحرب" في إطار أعم وأشمل حول التحول الجاري في هيكل النظام العالمي.
لقد نجحت النظرية في تفسير التحولات التي شهدها النظام العالمي خلال مراحل مختلفة، بالاعتماد على وجود/غياب "الهيمنة"، على سبيل المثال ارتبطت الهيمنة البريطانية على النظام العالمي خلال الفترة الممتدة من انتهاء الحروب النابليونية (1815) وحتى 1880، بالتزام بريطانيا بالدفاع عن النظام الاقتصادي العالمي الحر.
لكن مع تراجع الهيمنة البريطانية، بدءا من عام 1870 وصعود قوى جديدة -على رأسها الولايات المتحدة وألمانيا- بدأ تراجع مماثل في التزام بريطانيا بالتجارة الحرة، وفرض الحواجز والقيود على التجارة، وتراجع التزامها بالنظام الاقتصادي العالمي الحر.
الأمر ذاته حدث عقب الحرب العالمية الثانية التي شهدت تطور "الهيمنة" الأمريكية، حيث عمدت الولايات المتحدة إلى بناء نظام اقتصادي عالمي جديد يُعلي من قيم حرية التجارة وحرية تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات، من خلال وضع الأنظمة والمؤسسات المالية والاقتصادية التي تضمن تدشين هذا النظام واستدامته (مؤسسات بريتون وودز)، التي لعبت الولايات المتحدة الدور الأبرز في تأسيسها وإدارتها منذ ذلك التاريخ.
وفي الاتجاه ذاته، واستنادا إلى مقولات "استقرار الهيمنة" يمكن القول إن النظام العالمي يمر حاليا بمرحلة انتقال أو تشكل "دورة جديدة" من الهيمنة هناك من ناحية. تراجع واضح في قدرة الولايات المتحدة على حماية النظام الاقتصادي العالمي الحر، كان أبرز مؤشراته تراجع التزامها بمبادئ هذا النظام (تدشين ترامب موجة الحمائية التجارية في يوليو/تموز 2018)، وتراجع القدرة الأمريكية على تحمل تكاليف حماية هذا النظام، وعدم القدرة على توفير السلع العامة (المطالبة المستمرة لمشاركة الحلفاء في أعباء حماية الأمن العالمي، وحماية الممرات المائية الدولية التي تعد السلع العامة الأبرز في هذا النظام، والانسحاب من العديد من الاتفاقات متعددة الأطراف ذات الصلة بالأمن العالمي وحماية البيئة وحرية التجارة).
على الجانب الآخر، نلاحظ التزام الخطاب الصيني بمبادئ حرية التجارة العالمية والعولمة، ورغم اتخاذ الحكومة الصينية بعض إجراءات الحمائية التجارية إلا أنها جاءت في سياق رد الفعل على الخطوات الأمريكية، كما أن قيمة السلع الخاضعة التي تم إخضاعها لرسوم جمركية مرتفعة من جانب الصين لا تزال أقل من تلك التي تم إخضاعها من الجانب الأمريكي، لكن الأهم هو اتجاه الصين تدريجيا إلى تحمل مسؤوليات أكبر فيما يتعلق بتوفير السلع العامة العالمية (خاصة التنمية كأهم سلعة موضوع الطلب العالمي، والقروض التنموية الثنائية ومتعددة الأطراف عبر البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وتعميق الترابط المادي بين الاقتصادات عبر الحزام والطريق.. إلخ).
تراجع فجوة القوة بين الصين والولايات المتحدة
واستنادا إلى مقولات جيلين، يمكن القول إن تراجع فجوة القوة بين الصين والولايات المتحدة، ورفض الأخيرة إعادة النظر في طبيعة المؤسسات الدولية القائمة في اتجاه إعطاء القوى الصاعدة أوزانا تتوافق مع التغيرات الجارية في توزيع القدرات الاقتصادية والمالية، دفع بالصين -بالتعاون مع عدد من القوى الصاعدة الأخرى- إلى استحداث مؤسساتها المالية ومجموعاتها الدولية الخاصة بها. فوفقا، للعديد من الكتابات الأمريكية ذاتها، فإن أحد التفسيرات المهمة لاتجاه الصين لاستحداث "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية" أن مؤسسات "بريتون وودز" لم تعد تعكس التوزيع الفعلي للقدرات الاقتصادية والمالية العالمية الراهنة، وفي ظل رفض هذه المؤسسات -تحت تأثير النفوذ الأمريكي- إجراء أي تغييرات هيكلية على توزيع القوة التصويتية داخل هذه المؤسسات تعكس هذا التوزيع الجديد، ما أدى في التحليل الأخير إلى تطور إدراكات سلبية لدى الصين والاقتصادات الناشئة بأن هذه المؤسسات لا تزال تعمل بشكل متحيز ضدها، وعدم وجود فرصة لإصلاح حقيقي لها.
وتشير بعض هذه الكتابات بشكل خاص إلى وقوع الولايات المتحدة في خطأ تاريخي عندما رفض الكونجرس تمرير مشروع إصلاح صندوق النقد الدولي الذي أقره مجلس محافظي الصندوق، والذي تم الموافقة عليه سابقا في اجتماع قمة العشرين في سيول في نوفمبر 2010، والذي تضمن إعادة هيكلة القوة التصويتية داخل الصندوق، حيث تأتي الصين في الترتيب الثالث بعد الولايات المتحدة واليابان (بجانب منح قوة تصويتية أكبر لدول أخرى مثل البرازيل والهند وروسيا وجنوب أفريقيا)، وإصلاح مجلس المديرين التنفيذيين بشكل يُحد من هيمنة دول أوروبا الغربية على المجلس، وربطت هذه الكتابات صراحة بين عدم تمرير هذا المشروع داخل الكونجرس وقرار الصين إنشاء "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية"، كبنك دولي متعدد الأطراف يعكس الثقل الصيني الحقيقي داخل النظام المالي العالمي، وعبر عن هذا الربط -على سبيل المثال- أستاذ الاقتصاد الأمريكي "بن شالوم برنانكي Ben Shalom Bernanke".
رؤية برنانكي
وتأتي أهمية رؤية برنانكي كونه شغل رئيس "الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي" لمدتين متتاليتين خلال الفترة (2006-2014). كذلك صدرت بعض الدراسات الأمريكية المهمة التي أوصت بضرورة تمرير الكونجرس الإصلاحات المقترحة على صندوق النقد الدولي، واعتبار هذه الإصلاحات شرطا مهما لاستقرار النظام الاقتصادي والمالي العالمي.
من ذلك -على سبيل المثال- الدراسة التي كتبها الاقتصادي الأمريكي "إدوين ترومان Edwin M. Truman" في مارس 2013، والتي اكتسبت أهميتها كونها جاءت كرسالة "تنبيه" قبل الإعلان الرسمي عن تأسيس "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية" من ناحية، وكون ترومان تولى هو الآخر عددا من المناصب المهمة داخل وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
وكان ترومان صريحا في الإشارة إلى أن فشل تمرير هذه الإصلاحات المقترحة سوف يؤدي إلى تقويض "القيادة الأمريكية"، فضلا عن أنها لا تُرتب -وفقا لترومان- أية أعباء مالية إضافية على دافع الضرائب الأمريكي. وفي المقابل فإنها ستعزز -وفقا لترومان أيضا- مكانة الولايات المتحدة داخل الأسواق الناشئة والنامية، وتعزز الدور القيادي الأمريكي داخل النظام الاقتصادي العالمي، وستسهم في التحليل الأخير في الحفاظ على مركزية صندوق النقد الدولي داخل هذا النظام، وأعاد ترومان التأكيد على موقفه ذلك في دراسة أخرى صادرة في مارس 2018.
ولعل ما يؤسس للربط بين موقف الكونجرس المعارض لإصلاح صندوق النقد الدولي وقرار الصين إنشاء "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية" تعبير الصين أكثر من مرة عن "خيبة أملها" من هذا الموقف رغم الدعم الدولي لحزمة الإصلاحات المطروحة لصندوق النقد وتمريرها داخل الصندوق نفسه.
الأمر لم يقتصر فقط على توزيع التمثيل النسبي والقدرات التصويتية داخل مؤسسات بريتون وودز، لكنه شمل أيضا التباين الصيني-الأمريكي فيما يتعلق بالفلسفة الرئيسية الحاكمة لعمل هذه المؤسسات ولعمل النظام الاقتصادي العالمي بشكل عام، أو ما يطلق عليه قواعد "محكومية" النظام الاقتصادي العالمي.
فبينما استندت مرحلة "الهيمنة" الأمريكية إلى ما عرف بـ"توافق واشنطن" بمبادئه العشر، والتي صاغت سياسات عمل النظام الاقتصادي والمالي العالمي بشكل عام، ومؤسسات "بريتون وودز" بشكل خاص، فقد أضافت هذه المؤسسات بدورها مجموعة من السياسيات الإضافية، شملت: الاستدامة البيئية، وحقوق العمال (الحق في التفاوض الجماعي، حظر عمالة الأطفال، حظر عمالة الرقيق، القضاء على التمييز في سياسات العمل والتوظيف)، والقضاء على الفساد الحكومي.
"توافق بكين"
وفي المقابل، يتطور حول الصين ما يمكن وصفه بـ"توافق بكين"، الذي يؤكد مبادئ "عدم التدخل في الشؤون الداخلية" ورفض المشروطية السياسية والاقتصادية، وحرية كل دولة في اختيار نظامها السياسي ومسارها التنموي الذي يتناسب مع ظروفها وأوضاعها الداخلية، وعدم وجود نظام اقتصادي وسياسي محدد صالح لجميع دول العالم.
ولم يقتصر هذا التوجه الصيني على مجال استحداث المؤسسات المالية ذات الفلسفة وقواعد "المحكومية" الجديدة، لكنه شمل أيضا بناء "أنظمة وظيفية جديدة"، تحظى فيها الصين بالثقل الأكبر، عبر عن هذا التوجه بشكل بارز إصدار الحكومة الصينية عددا من الوثائق -في إطار مبادرة الحزام والطريق- التي تسعى إلى بناء هذه "الأنظمة" الجديدة في مجالات مختلفة، مثل وثيقة "رؤية وخطط عمل لتعاون الطاقة للبناء المشترك للحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين Visions and Actions on Energy Cooperation in Jointly Building Silk Road Economic Belt of 21st Century Maritime Silk Road"، الصادرة في مايو 2017.
وأفاضت الوثيقة في تحديد أهداف ومجالات والمبادئ الحاكمة لهذا التعاون، لكن كان ملفتا استهداف الوثيقة بناء "هيكل أفضل للحوكمة العالمية في مجال الطاقة"، يُعلِي من أولوية الطاقة النظيفة منخفضة الكربون، فمع تأكيد الوثيقة على الالتزام بالتعاون مع المؤسسات والأطر القائمة -الإقليمية ومتعددة الأطراف- وما تضمنته الوثيقة من مبادئ ومجالات تعاون، فضلا عن طرح "منتدى الحزام والطريق للطاقة"، وإن كان يستند إلى الدول الواقعة على مسار الحزام والطريق، إلا أن هذا لا ينفي الدور المهم الذي يمكن أن يلعبه هذا المنتدى كمؤسسة أو كإطار بديل لحوكمة التعاون الدولي في هذا المجال.
وفي الاتجاه ذاته، طرحت الحكومة الصينية في يونيو 2017 وثيقة أخرى تتعلق بالتعاون البحري، بعنوان "رؤية للتعاون البحري في بناء الحزام والطريق Vision for Maritime Cooperation under the Belt and Road Initiative"، التي حرصت هي الأخرى على وضع مجموعة من المبادئ العامة الحاكمة للتعاون في هذا المجال، كان أبرزها أيضا التشارك فيما أسمته الوثيقة "الحوكمة البحرية" وتوسيع مجالاتها، من خلال إنشاء آلية حوار رفيع المستوى للتعاون البحري بين الدول الواقعة على مسار طريق الحرير البحري، وتوقيع سلسلة من وثائق التعاون البحري بين الحكومات، واقترحت الوثيقة إنشاء "المائدة المستديرة لوزراء الشؤون البحرية للصين والدول الجزرية الصغيرة"، و"منتدى التعاون البحري بين الصين ودول أوروبا الجنوبية"، و"منتدى شراكة الاقتصاد الأزرق العالمي"، و"منتدى دولي لتخطيط الحيز البحري".
خطوة لا يمكن فهمها
خلاصة القول إذن.. إن "الحرب" التجارية القائمة بين الولايات المتحدة والصين، والتي دشنتها إدارة ترامب، ليست سوى جزء من عملية تحول أكبر وأعمق في إطار "دورات الهيمنة" وفق تعبير نظرية "استقرار الهيمنة".
وعلى الرغم من أن هذه العملية تأخذ بطبيعتها وقتا طويلا نسبيا، لكن إدارة ترامب عجلت بتسريع وتيرتها، وإعطائها طابعا صراعيا -خاصة عقب الانسحاب الأمريكي من "معاهدة القوى النووية متوسطة المدى"، وهي خطوة لا يمكن فهمها بدون التوجهات الأمريكية إزاء الصين- وبشكل يهدد عملية الانتقال السلمي والتحول التدريجي لهيكل وطبيعة النظام العالمي، ويهدد فرص الوصول إلى توافق على نظام يضمن احتواء القوى الصاعدة.
*خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، متخصص في الدراسات الآسيوية
aXA6IDE4LjIyMS4yNy41NiA=
جزيرة ام اند امز