ما بعد أمريكا.. هل حان الوقت لتحويل الناتو إلى منظمة أوروبية؟
على مدى عقود من الزمان، ظلت السياسة الأمريكية تجاه أوروبا ثابتة، إذ رسخت واشنطن نفسها في القارة عبر حلف شمال الأطلسي «الناتو» وعملت كراع رئيسي للأمن في المنطقة، بينما قبلت الدول الأوروبية زعامة أمريكا.
ولكن اليوم.. انحرفت أغلبية الحزب الجمهوري عن هذا الإجماع، واختارت بدلا من ذلك سياسة تلخصها تعليقات دونالد ترامب "إذا لم يدفعوا فلن نحميهم". بعبارة أخرى ستظل الولايات المتحدة ملتزمة بأوروبا، فقط.. إذا دفعت الدول الأوروبية.
- تحد وجودي يواجه «الناتو».. وروشتة لإعادة رسم المسار
- «دمار الكوكب» يتوقف على حكمة الناتو.. ميدفيديف يلوح بالحرب مجددا
ومن جانبهم تعمق الديمقراطيون في الرد على هذا التحول، فقد أكد الرئيس جو بايدن الالتزام الديمقراطي "المقدس" بالدفاع الأوروبي، وأعلن قبول فنلندا والسويد في حلف شمال الأطلسي باعتباره إنجازا عظيما لإدارته، فيما لم تشر كامالا هاريس إلى أي انحراف عن موقف بايدن كمرشحة ديمقراطية للرئاسة.
وبحسب تحليل لـ«فورين أفيرز»، فإن النقاش حول الدور الأمريكي في أوروبا كان مستحقاً منذ فترة طويلة، ولكن الجانبين جانبهما الصواب في تعريف القضايا والمصالح المعنية، والواقع أن الولايات المتحدة لديها نفس المصلحة الجوهرية في أوروبا اليوم، كما كانت لديها منذ أوائل القرن العشرين على الأقل: الحفاظ على تقسيم القوة الاقتصادية والعسكرية للقارة.
وعمليا، كان السعي إلى تحقيق هذا الهدف يعني منع ظهور قوة أوروبية مهيمنة، ولكن على النقيض من القارة في منتصف القرن العشرين تفتقر أوروبا اليوم إلى مرشح للهيمنة، وبفضل نجاح الجهود الأمريكية بعد عام 1945 لإعادة بناء أوروبا الغربية واستعادة الرخاء فيها، فمن غير المرجح أن يظهر تهديد هيمنة آخر.
ويتعين على الولايات المتحدة أن تدرك أنها حققت هدفها الرئيسي في أوروبا، وبعد أن نجحت في ضمان عدم تمكن أي دولة من الهيمنة على القارة يتعين عليها أن تتبنى نهجاً جديداً في التعامل مع المنطقة.
وفي إطار استراتيجية منقحة، ستعمل الولايات المتحدة على تقليص وجودها العسكري في القارة، وإضفاء الطابع الأوروبي على حلف شمال الأطلسي، وإعادة المسؤولية الرئيسية عن الأمن الأوروبي إلى أصحابها الشرعيين: الأوروبيون.
منذ أكثر من 100 عام كانت للولايات المتحدة مصلحة وطنية دائمة في أوروبا، الحفاظ على القوة الاقتصادية والعسكرية للقارة مقسمة بين دول متعددة من خلال منع ظهور قوة أوروبية مهيمنة تسعى إلى تعزيز تلك القوة لنفسها.
في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية خاضت واشنطن الحرب لمنع ألمانيا من الهيمنة على أوروبا، وكان الهدف من تأسيس حلف شمال الأطلسي في عام 1949 هو منع إمكانية سيطرة دولة واحدة على القارة.
وكما أشار وزير الخارجية دين أتشيسون في ذلك العام فإن الحربين العالميتين "علمتنا أن سيطرة قوة عدوانية غير صديقة واحدة على أوروبا من شأنها أن تشكل تهديداً لا يطاق للأمن القومي للولايات المتحدة".
وكان دعم الولايات المتحدة لحلف شمال الأطلسي خطوة معقولة في وقت كان فيه الاتحاد السوفياتي يهدد باجتياح القارة، وكانت ذكريات الحرب لا تزال حية، وكان مستقبل ألمانيا غير واضح، ولكن حتى في ذلك الوقت لم يكن هدف واشنطن تحمل المسؤولية الدائمة عن الأمن الأوروبي.
بل كان المقصود من حلف شمال الأطلسي أن يكون وسيلة مؤقتة لحماية دول أوروبا الغربية في أثناء تعافيها من الحرب العالمية الثانية، وتسهيل الجهود الأوروبية الغربية لموازنة القوة السوفياتية، ودمج ألمانيا الغربية في تحالف مضاد للسوفيات من شأنه أن يساعد أيضا في تحضر القوة الألمانية.
وفي عام 1951، لاحظ دوايت أيزنهاور -بصفته القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا- أنه "إذا لم تتم إعادة جميع القوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا لأغراض الدفاع الوطني إلى الولايات المتحدة في غضون عشر سنوات، فإن هذا المشروع بأكمله سيكون قد فشل".
ولتحقيق هذه الغاية حاول الرئيسان هاري ترومان وأيزنهاور تشكيل "قوة ثالثة" من القوى الأوروبية من خلال تشجيع فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا الغربية ودول أوروبا الغربية الأخرى على الجمع بين مواردها السياسية والاقتصادية والعسكرية ضد الاتحاد السوفياتي.
وبمجرد تشكيل هذه القوة الثالثة، فإنها ستعفي الولايات المتحدة من واجب العمل كخط دفاع أول لأوروبا.
ولم تقبل الولايات المتحدة على مضض بدور أكثر ديمومة في التحالف إلا عندما اتضح في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات أن دول أوروبا الغربية كانت قلقة بشأن ألمانيا بقدر قلقها بشأن الاتحاد السوفياتي.
ولكن الوضع اليوم مختلف تماما، فللمرة الأولى منذ قرون تفتقر أوروبا إلى قوة مهيمنة محتملة، فقد حلت المخاوف من ألمانيا الإمبريالية محل المخاوف بشأن الدور الجيوسياسي المتعثر لبرلين، الأمر الذي قلب "المشكلة الألمانية" رأسا على عقب، وتدرك دول أخرى قادرة، مثل المملكة المتحدة وفرنسا، أن توزيع القوة ليس مواتيا للتوسع.
وفي الوقت نفسه، تفتقر روسيا إلى الموارد والفرصة لشن تحد هيمني، فمع تعداد سكاني يبلغ 143 مليون نسمة، مقارنة بنحو 600 مليون نسمة في الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، تفتقر روسيا إلى القوة البشرية اللازمة لغزو أوراسيا.
كما أن اقتصاد الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي أكبر بنحو عشرة أضعاف وأكثر تطوراً بشكل ملحوظ من اقتصاد روسيا.
وحتى أكثر التقديرات تشاؤماً المتاحة تظهر أن الدول الأوروبية أنفقت على الدفاع أكثر بكثير من روسيا حتى قبل العملية العسكرية المكلفة لأوكرانيا وقبل الزيادات الناتجة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي.
ووفقاً للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فقد أنفقت روسيا نحو 75 مليار دولار في عام 2023، في حين أنفقت الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي مجتمعة أكثر من 374 مليار دولار.
ولا شك أن عملية روسيا العسكرية بأوكرانيا أظهرت استعدادها لاستخدام القوة، واهتمامها الواضح بالسيطرة على أوكرانيا، وقدرتها على دعم العمليات عالية الكثافة، ولكن ما لم تثبته روسيا هو قدرتها الحقيقية على فرض قوتها العسكرية عبر مسافات طويلة.
فلم يتم صد الهجوم الروسي الأولي نحو كييف فحسب، بل إن الكثير من القتال الذي دار منذ ذلك الحين وقع على بعد بضع مئات من الأميال من الحدود الروسية الأوكرانية كانت نتيجته تدميراً مروعاً، ولكنها لا تقدم دليلاً على جاهزية الجيش لغزو القارة.
ولكن إذا كانت روسيا، بعد أكثر من عامين من القتال، عاجزة عن هزيمة أوكرانيا الأضعف اقتصادياً وعسكرياً، فإنها لا تشكل تهديداً هيمنياً لأوروبا.
وعلى الرغم من أن روسيا قد تحاول بكل تأكيد تجديد قدراتها العسكرية، فإن ردود أفعال الدول الأوروبية على الصراع أظهرت استعدادها لمواجهة فرص العدوان في المستقبل، والآن أصبحت روسيا اليوم مجرد ظل للتهديد السوفياتي.
وفي غياب أي مرشح للهيمنة الأوروبية، لم تعد هناك حاجة للولايات المتحدة لتولي الدور المهيمن في المنطقة.
وبدون واشنطن على رأس القيادة، لكانت أوروبا اليوم قادرة على ممارسة السياسة الدولية الطبيعية، التي تتضمن بلا شك احتمالات نشوب صراع بين الدول على أطرافها، دون فتح الباب أمام تحدٍ هيمني.
ولكن واشنطن ترفض أن تفوز بالنصر، فبعد أن قضت على إمكانية ظهور قوة عظمى أوروبية، أدى توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً إلى خلق مصالح جديدة تتعلق بدول ضعيفة وعرضة للخطر يصعب تأمينها إلى حد كبير.
وهذا يخلق ضغوطاً سياسية على الولايات المتحدة للبقاء في أوروبا، على أساس أن أوروبا غير قادرة على الدفاع عن نفسها.
ولكن على الرغم من كل الاهتمام الذي يولى لمسألة ما إذا كانت أوروبا قادرة على الدفاع عن نفسها، فمن الغريب أن "أوروبا" نادراً ما يتم تعريفها، فقد نشأت الجهود الرامية إلى توحيد البلدان الأوروبية في وحدة سياسية أكبر بأهداف نبيلة.
فقد وصف رئيس الوزراء الفرنسي السابق روبرت شومان الهدف بأنه "جعل أي حرب بين فرنسا وألمانيا ليس مجرد أمر لا يمكن تصوره فحسب، بل مستحيلة مادياً".
ولكن على الرغم من التكامل الأوروبي فإن الدولة القومية لا تزال تهيمن على السياسة الأوروبية، ففرنسا ولاتفيا دولتان أوروبيتان، ولكن احتياجاتهما الدفاعية -وأهميتهما بالنسبة للولايات المتحدة- تختلفان.
ومن غير المستغرب إذن أن ندرك أن أوروبا قد لا تتمكن بسهولة من الدفاع عن نفسها إذا أدرجنا البلدان الصغيرة الضعيفة التي تحد روسيا في قائمة الدول التي يتعين الدفاع عنها، ومن اللافت للنظر أن ألعاب الحرب التي جرت على مدى العقد الماضي أشارت بقوة إلى أنه في حال نشوب صراع مع روسيا فإن الولايات المتحدة وشركاءها سوف يكافحون من أجل منع بعض أعضائها الأكثر ضعفاً من مواجهة أضرار جسيمة.
من ناحية أخرى، إذا كانت "أوروبا" تعني شيئا تتماشى مع المصالح الأمريكية التقليدية -الحفاظ على تقسيم المناطق الأساسية للقوة العسكرية والاقتصادية في القارة- فإن الأمر يصبح أقل إثارة للرهبة.
ومرة أخرى أصبح توزيع القوة العسكرية والاقتصادية اليوم على النحو الذي يسمح بوجود العديد من الدول التي قد تمنع روسيا، مجتمعة أو منفردة، من تحقيق الهيمنة.
وتوفر الأسلحة النووية رادعاً آخر: ففرنسا والمملكة المتحدة تمتلكان ترسانتيهما النوويتين الخاصتين، ويمكن لدول أخرى في أوروبا -ألمانيا على وجه الخصوص- أن تحصل بسهولة على مثل هذه الترسانات إذا شعرت بالتهديد الكافي.
والواقع أن كيفية تعريف المرء لأوروبا تحدد مدى سهولة قدرة أوروبا على الدفاع عن نفسها، ولكن المصلحة المركزية للولايات المتحدة في أوروبا ليست معرضة للخطر.
كيف تتحقق الخطة؟
وفي ظل المطالب المتزايدة في الداخل وفي آسيا بات من الواجب تصحيح المسار، ولن تكون الفكرة عزل الولايات المتحدة عن أوروبا، بل تحويل دور الولايات المتحدة من كونها الملاذ الأول إلى كونها الملاذ الأخير لتحقيق التوازن.
أولا، ينبغي للولايات المتحدة أن تبدأ في سحب بعض قواتها من أوروبا، مما يفرض مسؤولية توفير القوات التقليدية اللازمة لتأمين أوروبا على أكتاف الأوروبيين.
وفي الوقت الحالي لدى الولايات المتحدة ما يقرب من 100 ألف جندي متمركزين في القارة، مع أكبر تركيز في ألمانيا، وسيكون مكانا جيدا لبدء الانسحاب هم 20 ألف جندي إضافي نشرتهم إدارة بايدن في عام 2022 بعد عملية روسيا بأوكرانيا.
وبمجرد سحب هذه القوات يجب على واشنطن الإشارة إلى نيتها استئناف سحب 12 ألف جندي من ألمانيا، وهي الخطة التي وافق عليها ترامب وجمدها بايدن.
إن جولتين منظمتين من الانسحاب من شأنهما أن يؤكدا هذه النقطة، تحتاج أقوى دول أوروبا إلى تكثيف جهودها.
في نهاية المطاف، يمكن سحب القوات والمعدات الأمريكية الإضافية في أوروبا تدريجيا، مما يحول عبء احتياجات الردع التقليدية في أوروبا إلى الأوروبيين.
إن اتخاذ هذه الخطوات الآن من شأنه أن يستغل استعداد الأوروبيين الواضح لبذل المزيد من الجهود من أجل الدفاع عن أنفسهم منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
وتجسد ألمانيا هذا الاهتمام الجديد، فقد كان الهجوم الروسي الأولي كافيا لصدمة ألمانيا ودفعها إلى إلغاء خط أنابيب نورد ستريم 2 والإعلان عن خطط لإنفاق 108 مليار دولار إضافية على الدفاع على مدى أربع سنوات كجزء من "نقطة التحول".
وعلى الرغم من أن الطريقة التي أنفقت بها ألمانيا هذه الأموال منعت "العصر الحديث" من توليد قوة عسكرية جادة، فإن قادتها تبنوا الحاجة إلى إعادة بناء القدرات الألمانية، وبعض أكثر المسؤولين المنتخبين شعبية في البلاد، مثل وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك ووزير الدفاع بوريس بيستوريوس، من أنصار إعادة التسلح.
كما اتبعت دول قادرة مثل فرنسا وبولندا والمملكة المتحدة مساراً مماثلاً، ومن شأن سحب القوات والمعدات، وهو التعبير الملموس عن الزعامة الأمريكية، أن يعجل بهذه العملية من خلال إلزام الدول الأوروبية بتحمل المسؤولية عن دفاعها ومنعها من الاستمرار في الاعتماد على الولايات المتحدة.
في الوقت نفسه، يتعين على صناع السياسات أن يدركوا أن أوروبا لا تستطيع سد العجز بسرعة في مجالات معينة.
وعلى وجه الخصوص، فإن المظلة النووية الأمريكية وقدراتها الاستخباراتية والمراقبة والاستطلاعية سوف تستغرق وقتاً طويلاً حتى يتم استبدالها حتى في أفضل الظروف.
وعلى هذا، يتعين على واشنطن أن تستمر في تقديم المساعدة لأوروبا في هذه المجالات لعدة سنوات في حين تساعد أوروبا على تصحيح فجوات القدرات على المدى الطويل.
وكما تقدم الولايات المتحدة الاستخبارات والمساعدة في تحديد الأهداف للدول التي ليست حليفة لها بموجب معاهدات مثل أوكرانيا، فإنها تستطيع أيضاً أن تعد بشكل موثوق بتقديم هذه الخدمات لأعضاء حلف شمال الأطلسي، حتى مع سحب قواتها التقليدية.
وقد يتضمن هذا أيضاً إعادة تقييم معارضة الولايات المتحدة لحصول ألمانيا على الأسلحة النووية، ولو أنه من غير المرجح أن تلجأ ألمانيا إلى القنبلة النووية في أي سيناريو يمكن تصوره.
كما ينبغي لواشنطن أن تشجع الدول الأوروبية على الاستثمار في قاعدتها الصناعية الدفاعية، والعائد هنا سيكون كبيرا.
وقدر أحد التحليلات التي أجراها أستاذ معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا باري بوسن في عام 2021 المدخرات المالية المترتبة على التخلي عن مهمة الردع التقليدية في أوروبا بنحو 70 إلى 80 مليار دولار سنويا.
ونظرا للتضخم والقوات والجهود الإضافية المخصصة لأوروبا منذ عام 2022، فإن المدخرات ستكون أكبر اليوم.
وثانياً، لتسهيل زيادة قدرة القوة العسكرية الأوروبية يتعين على الولايات المتحدة أن تتخلى عن بعض مطالبها القديمة بشأن كيفية تسليح أوروبا.
فعلى مدى عقود من الزمان، أصرت واشنطن على أن تشتري الدول الأوروبية المواد من الولايات المتحدة وتتجنب الحصول على قوات تكرر القوات الأمريكية.
وتقوض هذه المتطلبات الدعم المحلي للاستثمار العسكري في أوروبا، وتحد من قدرة القارة على خلق قوتها العسكرية الخاصة بها والحفاظ عليها.
وبدلاً من حث الدول الأوروبية على شراء المنتجات الأمريكية يتعين على واشنطن أن تشجع الدول الأوروبية على الاستثمار في قاعدتها الصناعية الدفاعية.
إن الظروف مهيأة لإعادة بناء القاعدة الصناعية الدفاعية الأوروبية، فالشعور بالتهديد مرتفع، والخطوات الأولية التي اتخذت بعد عملية روسيا بأوكرانيا أثمرت، وأوروبا تنتج بالفعل أسلحة رئيسية مثل الدبابات القتالية الرئيسية، ويتعين على واشنطن أن تستفيد من هذه الديناميكيات.
ولأن القدرات العسكرية الجديدة تستغرق وقتا طويلا للتطور، فإن تعديل السياسة الأمريكية الآن من شأنه أن يساعد في ضمان حصول أوروبا على القدرات المحلية اللازمة لمعالجة مشاكل القارة لعقود قادمة.
وعلاوة على ذلك، ونظراً لارتفاع تكلفة إنتاج المعدات العسكرية الحديثة، فإن تشجيع الدول الأوروبية على شراء المعدات الأوروبية من شأنه أن يولد ضغوطاً سياسية لزيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي.
وكما تجعل الفوائد الاقتصادية المركزة من الإنفاق العسكري من الصعب على الولايات المتحدة إغلاق القواعد أو خطوط الإنتاج، فإن الفوائد الاقتصادية من شأنها أن تؤثر على القرارات المماثلة في أوروبا.
ومن خلال تشجيع أوروبا على تطوير قاعدتها الصناعية الدفاعية تستطيع واشنطن أيضاً تحفيز التنسيق المتعدد الأطراف للسماح بفترات إنتاج أطول، وخفض تكلفة المشتريات، وتعزيز التشغيل البيني، والسماح بتخطيط عسكري وميزانية أكثر كفاءة.
وعندما تُضطر الدول الأوروبية إلى تحمل المسؤولية اليومية عن الأمن القاري، فسوف تضطر إلى تحمل التكاليف الكاملة لاختياراتها الأمنية.
وأخيرا، يتعين على الولايات المتحدة أن تعمل تدريجيا على تحويل حلف شمال الأطلسي إلى تحالف تديره أوروبا وتقوده.
وللبدء، يتعين على واشنطن أن تشجع الأعضاء الأوروبيين في التحالف على إنشاء "ركيزة أوروبية" داخل حلف شمال الأطلسي، وهي وسيلة تمكن أعضاء التحالف من صياغة مواقف مشتركة بشأن مسائل الدفاع والأمن دون مساهمة أمريكية.
ويتعين على الرئيس الأمريكي أن يوضح أن القائد الأعلى القادم لقوات الحلفاء سيكون أوروبيا، في قطيعة مع الممارسة التي استمرت 75 عاما، حيث كان الأمريكيون يشغلون هذا المنصب دائما.
ويتعين على الولايات المتحدة أن تقلص من عمق مشاركتها في لجان حلف شمال الأطلسي، وأن تترك للحلفاء، على سبيل المثال، مهمة المناقشات السياسية داخل لجان النواب أو لجان التخطيط والسياسة الدفاعية، حيث يتم تشكيل الإجماع بشأن المسائل الأمنية والسياسية والتنظيمية.
إن كل هذه الخطوات من شأنها أن توضح أن الولايات المتحدة تتوقع من الأوروبيين أن يديروا التحالف على أساس يومي، وسوف يكون الأوروبيون في وضع جيد للقيام بذلك:، فالبنية الأساسية البيروقراطية الضخمة التي يتمتع بها حلف شمال الأطلسي تجعل من الممكن البناء على عادات التعاون التي اكتسبها التحالف على مدى عمره الطويل.
ولا تحتاج السياسة الأمريكية إلى استهداف الانسحاب الرسمي من حلف شمال الأطلسي أو استمرار العضوية فيه؛ بل تحتاج ببساطة إلى توضيح أن دور واشنطن كمهدئ لأوروبا يقترب من نهايته، وإذا شعر مخططو الدفاع الأوروبيون بأن هذا يترك ثغرة يجب ملؤها، فلا بد أن يملأوها بأنفسهم.
في الواقع، ستعيد الولايات المتحدة العلاقة عبر الأطلسي إلى جذورها، وباعتبارها قوة بحرية ستساعد واشنطن في الحفاظ على التوازن، ولكنها لن تسعى إلى الهيمنة على القارة نفسها.
وبعيداً عن الاهتمام والموارد الأمريكية، فإن العلاقة ذات الحجم المناسب من شأنها أيضاً أن تخلف تأثيراً مفيداً على التخطيط الاستراتيجي الأوروبي، فعندما تُدفع الدول الأوروبية إلى تحمل المسؤولية اليومية عن الأمن القاري، فسوف تضطر إلى تحمل التكاليف الكاملة لخياراتها الأمنية.
وفي وقت حيث يدفع صناع السياسات في مختلف أنحاء القارة بسياسات طموحة ومكلفة -مثل إضافة أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي وربما الدخول في الحرب في أوكرانيا بأنفسهم- فإن تحويل المسؤولية عن أمن أوروبا إلى الأوروبيين من شأنه أن يقلل من الحوافز التي تدفع هذه الدول إلى تعزيز السياسات المتهورة.
لا تدع الأزمة تذهب سدى
كانت اللحظة المثالية لإعادة المسؤولية عن أوروبا إلى الأوروبيين قد جاءت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 مباشرة، عندما اختفى مبرر وجود حلف شمال الأطلسي، ولكن اللحظة الحالية سوف تكون مناسبة.
وقد يبدو من غير المنطقي أن نقترح تقليص دور الولايات المتحدة كحارس لأوروبا في الوقت الذي تواجه فيه القارة أكبر حرب لها منذ الحرب العالمية الثانية، لكن من المفارقات أن تكاليف الصراع في أوكرانيا والاستجابات له تجعل التعديل الاستراتيجي الواضح قابلاً للتنفيذ.
إن النية الروسية قد تكون عدوانية، لكن قدراتها تقيدها، كما تفتقر دول أوروبية أخرى إلى القدرة على القيام بدور في الهجوم عبر القارة.
ولقد أثبتت أوكرانيا أن المدافعين المتحمسين قادرون على صد المعتدين حتى في ظل ظروف معاكسة، وهذه ظروف مواتية للولايات المتحدة.
وعلاوة على ذلك، فإن الميزة الهائلة التي تتمتع بها أوروبا في قوتها الكامنة تشير إلى أن واشنطن سيكون لديها متسع من الوقت لاتخاذ قرار بشأن ما إذا كان عليها أن تنقض مرة أخرى لمواجهة قوة مهيمنة ومتى قد تفعل ذلك.
خسائر زعامة أوروبا
إن الدعوات التي تطالب الولايات المتحدة بالتمسك بالزعامة في أوروبا تتجاهل الفرصة والتكاليف المباشرة المترتبة على ذلك والمصالح المتزايدة الأهمية التي تكتسبها واشنطن في أماكن أخرى.
فالولايات المتحدة تواجه الآن ديوناً تبلغ 35 تريليون دولار، وعجزاً سنوياً في الميزانية يبلغ 1.5 تريليون دولار، وتحدياً متزايداً في آسيا، وانقسامات سياسية واضحة تجعل حل هذه التحديات أكثر صعوبة.
وفي غياب أي مؤشر على تحسن الصورة المالية أو أي دليل على تراجع الضغوط الداخلية، يتعين على صناع القرار السياسي إعادة تقييم التزامات الولايات المتحدة الخارجية.
ونظراً لأن الولايات المتحدة حققت هدفها المركزي في أوروبا، فقد حان الوقت لتنفيذ ما قصده واضعو استراتيجيتها في مرحلة ما بعد الحرب هناك، والآن حان الوقت لتحقيق النصر.
aXA6IDMuMTQuMTMyLjE3OCA= جزيرة ام اند امز