في وقت تعيد الإدارة الأمريكية ترتيب شراكتها مع حلفائها، تخوفًا من أي ارتدادات على شكل هذه الشراكة، تقوم روسيا مقابل ذلك بإعادة ترتيب تحالفاتها في مناطق نفوذها وخارجها.
هذا الأمر برز مؤخرًا في إطار تفعيل أركان العلاقات الروسية الإيرانية التركية على أسس وقواعد مهمة، لا تتعلق بالمسائل التقليدية كالملف السوري والتنسيق الأمني والاستراتيجي، بل بمحاولة تحقيق توافقات في الحد الأدني من العلاقات بين الأطراف الثلاثة، وعلى قاعدة المصالح المشتركة والفوائد المتبادلة، التي تعمل بها هذه الأطراف، والتي يمكن أن تكون مدخلا لما هو قادم من علاقات جديدة. فيما هناك احتمال بأن تضم دول أخرى مهمة لهذه الأطراف.
إن التحاق دول مثل الصين وروسيا البيضاء وكوريا الشمالية ودول البلطيق، ودول مؤتمر الأمن الجماعي، بتحالف روسي تركي إيراني، سيمثل امتدادات أخرى في مواجهة مسعى الغرب -خاصة أمريكا- لبناء شراكات في مواجهة المد الروسي والصيني الراهن، ومحاولة تطويقه، وهو ما يتجاوز بالفعل ما جرى في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية، والتي من المنتظر أن تستمر طويلا في إطار سيناريو إعادة بناء نظام دولي وفقا لسياسات تنافسية وصراعات متعددة، وفي ملفات أكثر تنسيقًا، سواء المتعلقة ببناء المصالح، أو حجز دور في تشكيل السياسات الكبرى، والتي تشمل دول العالم، والتي تحتاج في الوقت الراهن إلى تأكيد شراكتها الحقيقية، والبناء عليه وفق قواعد نفعية، بدليل التحرك الروسي الاستباقي مع تركيا وإيران، ما قد ينقل مساحات التحرك إلى دوائر أخرى من التنسيق الاستراتيجي، والذي سيقف في مواجهة التحركات الأمريكية الساعية لإعادة تأكيد مساحات وجودها، والبناء في إطار استراتيجية التحسب الاستباقي من أي منافسة روسية أو صينية، وهو ما لم ينكره الجانب الأمريكي، إذ جاء على لسان الرئيس جو بايدن في جولته الأخيرة بالشرق الأوسط ما يشير إلى أن دوائر التنسيق الثنائي والمتعدد تنفتح لتضم دولا أخرى في نطاق استعادة المراكز السياسية والاستراتيجية في العالم، مع بناء مصالح مستجدة في مواجهة ما يخطط له الجانبان الروسي أو الأمريكي.
فعلي سبيل المثال ستظل مسألة رفع الحظر عن صادرات الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود أولوية ضمن أولويات إمدادات الطاقة، وبرغم التوافق بشأن تصدير الحبوب فإن الضربات الروسية على ميناء "أوديسا" بساحل البحر الأسود قوّض إمكان استمرار التفاهم مع موسكو، وبالتالي استئناف صادرات الحبوب الأوكرانية للعالم.
والواضح، بعد أشهر عدة من التطورات في الأزمة الدولية الراهنة، أن السياسات التي يتم العمل عليها تتم في إطار من المصالح المتوازنة دون اصطدام أو مواجهة، والاكتفاء بإدارة الملفات وفق معادلة غير صفرية، وعلى أساس قواعد منضبطة حقيقية، وهو ما يعمل عليه الطرفان الروسي والأمريكي، إضافة للصين، التي تعمل في إطار المصالح الموجهة والمباشرة، سواء في جنوب شرق آسيا، أو خارجها، مع تأكيد أن توزيع مناطق النفوذ الجديدة، أو البناء في شراكات سياسية واستراتيجية جديدة، سيتطلب مراجعة للحسابات والتقييمات السياسية الموضوعة والمخطط لها، والتي ستحكم إدارة المشاهد السياسية المقبلة، سواء في التعاملات الثنائية، أو في مستوى متعدد الأطراف.
في السياق الإقليمي، ما زال الرئيس التركي "أردوغان" يلوّح منذ شهرين بشن عملية عسكرية ضد مناطق تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، التي يشكّل المقاتلون الأكراد عمودها الفقري، وتنطلق العملية المعلن عنها من الحدود التركية، وتمتد إلى منطقتي منبج وتل رفعت في ريف حلب بشمال سوريا.
وتسيطر تركيا وفصائل سورية موالية لها منذ 2016 على مناطق حدودية متاخمة في الشمال السوري.. ورغم كونها عضوًا رئيسيًّا في التحالف العسكري الغربي، رفضت تركيا الانضمام إلى العقوبات الدولية ضد روسيا، حيث تسعى الحكومة التركية للعب دور الوسيط.
وفي المقابل تسعى الولايات المتحدة لتبقى الطرف الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط في السنوات القادمة دون تحدٍّ كبير أو منافسة من قوى صاعدة أخرى، رغم تحوّل الثقل الاقتصادي العالمي تدريجيا من الغرب إلى الشرق.
ما يجري دوليا، واتضح في التحرك الروسي التركي الإيراني ودول أخرى، مرشح للتكرار في بقاع أخرى، خاصة أن التطورات الجارية في أوروبا تشير إلى ذلك، فعلى سبيل المثال، فإن بحر البلطيق أصبح دائرة نفوذ للناتو، حيث ستكون فرص الحلف لحصر قوات البحرية الروسية في قواعدها أفضل مما هي عليه أصلًا.
وقد شكّل وقف إمدادات النفط والغاز الروسي إلى الدول الأوروبية مصدر قلق للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، التي تحاول اتخاذ إجراءات استباقية لتعزيز أمن الطاقة الأوروبي، ومنع حدوث اضطراب واسع في إمدادات الغاز والنفط وأسعاره في السوق العالمية، جراء العقوبات، التي فرضتها إدارة "بايدن"، وقد دعت رئيسة المفوضية الأوروبية مؤخرًا، أورسولا فون دير لاين، دول الاتحاد الأوروبي إلى الاستعداد -وبشكل عاجل- لأسوأ سيناريو للغاز، في الوقت الذي أعلنت فيه روسيا عن خطط لزيادة خفض إمدادات الغاز إلى ألمانيا.
وأبعد من ملف إمدادات الطاقة، من المتوقع أن تتأثر منطقة الشرق الأوسط -والعالم العربي في القلب منه- بارتدادات الحرب في مجال تجارة المواد الزراعية، وإنتاج الحبوب في دول منطقة البحر الأسود.. بالإضافة إلى تأثيرات تدفق اللاجئين من منطقة الحرب إلى دول الاتحاد الأوروبي، وما يمكن أن تشكله من ضغوط على برنامج المساعدات العالمي للاجئين، الذي يستفيد منه لاجئو دول الشرق الأوسط ومناطق أخرى.
في المجمل يُعاد تشكيل بنية التحالفات السياسية والاستراتيجية بصورة مرحلية، وعبر سلسلة من المصالح المعقدة والمتفاعلة، وتشمل بالأساس الدول الكبرى مع مسعى مستمر لضم أكبر دول في مناطق النفوذ والدعم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة