المترجم سمير جريس: أنحاز للقيمة.. و"العاصمة" أهم ما ترجمت
الترجمة عملية شاقة في قدرتها على الربط بين ثقافتين، المترجم سمير جريس يتحدث عن تجربته في نقل روائع الأدب الألماني المعاصر للعربية.
تكاد لا تخلو مكتبة قارئ عربي من رواية ألمانية ترجمها المترجم المصري سمير جريس، الذي تمتد رحلته مع الترجمة الأدبية لأكثر من 20 عاما، صنع خلالها اسما أصبح أقرب ما يكون لعلامة جودة يطمئن لها القارئ الباحث عن نص يثق في جمالياته الإبداعية.
ومؤخرا صدرت ترجمته لرواية "العاصمة"، للروائي النمساوي روبرت ميناسه، وهي رواية يصفها جريس بأنها: "أهم رواية ترجمتها في السنوات الأخيرة"، فقد نالت عام 2017 جائزة الكتاب الألماني، وعلى الرغم من صعوبتها وجدت استقبالا طيبا من القراء.
ولد جريس في القاهرة عام 1962، ودرس اللغة الألمانية وآدابها في القاهرة وجامعة ماينتس بألمانيا، وترجم سلسلة من الأعمال الأدبية الألمانية المعاصرة إلى العربية، منها "عازفة البيانو" للكاتبة النمساوية إلفريده يلينك الحائزة على جائزة نوبل عام 2004، صدر له في مطلع عام 2016 كتاب ألفه عن الكاتب الألماني الكبير جونتر جراس الذي حصل على جائزة نوبل عام 1999، ونُشر بعنوان "جونتر جراس ومواجهة ماض لا يمضي"، ويعتبر أول كتاب نقدي بالعربية عن جراس.
حصل جريس في عام 2014 على جائزة الترجمة الأدبية من الألمانية إلى العربية من معهد جوته بالقاهرة، كما نال في عام 1996 الجائزة الأولى في ترجمة القصة من المجلس الأعلى للثقافة في مصر.
هل كانت لديك رغبة في البداية للتوجه إلى اللغة الألمانية للدراسة والترجمة؟
عندما دخلت كلية الألسن، أردت دراسة لغة نادرة إلى حد ما، اخترت الألمانية لاعتقادي أن من يتقن اللغة الألمانية يسهل عليه أن يجد عملا في إحدى الشركات الألمانية المتواجدة في مصر، مثل سيمنس أو هوكست، أو في مجال الإرشاد السياحي. وهذا ما حدث. اهتمامي بالترجمة الأدبية بدأ مبكرا، لا سيما أن أستاذي الدكتور مصطفى ماهر من كبار مترجمي الأدب الألماني، وكنا –نحن طلبة قسم اللغة الألمانية – ننظر بتقدير كبير، طامحين إلى السير على طريقه، بعد أن حصلت على ليسانس الألسن أردت أن أكمل دراسة الترجمة، فالتحقت بقسم اللغة الألمانية بكلية الآداب جامعة القاهرة الذي كان آنذاك يقدم دراسة متخصصة في الترجمة بأنواعها المختلفة، ومنها الأدبية طبعا، مدة هذه الدارسة عامان، وفي نهايتها يحصل الطالب على دبلوم في الترجمة الأدبية. وهذا ما فعلته. هناك تعلمت الكثير، واستفدت من أساتذتي الكبار، وكان يدرس لنا مادة الترجمة الأدبية هناك أستاذي الدكتور كمال رضوان الذي شارك في وضع أهم قاموس من اللغة الألمانية إلى العربية (قاموس شريجله)، والدكتورة ناهد الديب؛ وكلاهما شجعاني على مواصلة الجهد في الترجمة الأدبية، وأتذكر أن الدكتورة ناهد الديب راجعت بعض القصص القصيرة التي قمت بترجمتها، وقالت لي مشجعة: لا بد أن تنشر هذه القصص، وأوصتني بإرسالها إلى مجلة "القاهرة" التي كانت تصدر شهرية آنذاك وكان يرأس تحريرها آنذاك الناقد إبراهيم حمادة، وبالفعل نشرت "القاهرة" أول قصة مترجمة وكان عنوانها "المارك"، وكان ذلك في عام 1986، وبعدها بشهور نُشرِت ترجمتي لقصة من قصص فولفجانج بورشرت في مجلة "إبداع" التي كان يرأس تحريرها الناقد الكبير عبدالقادر القط، وكان عنوانها "حكايات من كتاب المطالعة"، وهكذا بدأت ترجمة بعض القصص القصيرة لبورشرت، نُشرت في مجلات متفرقة، وجمعتها بعد ذلك بسنوات طويلة ونُشرتها في كتابي الأول "شدو البلبل" (قصور الثقافة، سلسلة "آفاق عالمية" 1998)، كما ترجمت قصصا أخرى لهاينريش بُل نُشرت في كتاب "وكان مساء" (دار المدى، 2004). وهكذا بدأت طريقي في الترجمة. وعندما واصلت دراسة الترجمة في جامعة ماينتس بألمانيا، ازداد إصراري على الترجمة الأدبية برغم صعوبة النشر، وضآلة المكافآت، لا سيما لمن يعيش في أوروبا.
وما معيار اختيارك للأعمال التي تترجمها؟
هناك معايير شخصية بالطبع. أحاول البحث عن أعمال تخاطب القارئ العربي، أعمال ذات صبغة إنسانية عامة (مثل مسرحية "مدرسة الطغاة" لإيريش كستنر، وقصص فولفجانج بورشرت "سن الأسد" وكذلك قصص هاينريش بُل في مجموعته "وكان مساء"، أو أعمال لها أهميتها أو شهرتها في السياق الألماني، وأراها جديرة بأن يتعرف إليها القارئ العربي مثل رواية "قصص بسيطة" لإنجو شولتسه و"عازفة البيانو" للحائزة على نوبل إلفريده يلينك، أو لأنها حققت نقلة فنية أو أسلوبية وبالتالي كانت لها أهمية نقدية مثل "مونتاوك" لماكس فريش، أو لأنني أرى أن هذا العمل يثير اهتمام القارئ العربي مثلاً "الحيوان الباكي" لميشائيل كليبرغ والذي يتحدث فيه عن رحلته إلى لبنان وعلاقته بالشاعر عباس بيضون، وأحياناً أود أن أنقل عملاً لكاتب لا يعرفه القارئ العربي مثل توماس برنهارد وكتابه "صداقة"، كما أنني أهتم بأعمال بعض الكتاب من ألمانيا الشرقية سابقا، لأنها تعالج قضايا الدكتاتورية والتحول الديمقراطي، وهي قضايا ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلينا في المنطقة العربية. لهذا قمت بترجمة رواية "قصص بسيطة" للكاتب إنجو شولتسه. كان هذا أيضا دافعي لترجمة رواية "قاتل لمدة عام" للكاتب الألماني الغربي فريدريش كريستيان دليوس. وأخيرا، قد تكون متعة قراءة نص جيد هي الدافع للترجمة؛ كان هذا هو السبب في قيامي بترجمة أعمال مثل "الكونتراباص" لباتريك زوسكيند و"العطل" و"الوعد" لفريدريش دورنمات، و"تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين" لهانس فالادا.
صدرت لك مؤخرا الترجمة العربية لرواية "العاصمة" للروائي النمساوي روبرت ميناسه.. فما أهميتها؟
هذه الرواية أعتبرها من أهم الأعمال التي ترجمتها في السنوات الأخيرة. وقد حازت "العاصمة" عام 2017 جائزة الكتاب الألماني، وهي جائزة مهمة تمنح كل عام لأبرز رواية صدرت في المنطقة الألمانية، وتوزع الجائزة عشية معرض فرانكفورت للكتاب. وتعتبر هذه الجائزة الرديف الألماني لجائزة "البوكر" البريطانية، والبوكر العربية. والكاتب النمساوي روبرت ميناسه أحد الكتاب الشغوفين بأوروبا، وقد أعرب في مقالات عديدة عن قلقه الناجم عن الأخطار المحدقة بالاتحاد الأوروبي، فيما يتعلق بالتضامن والانفتاح نحو العالم والاستقرار، وذلك عبر النكوص إلى التفكير القومي، والصراعات التنافسية، والبيروقراطية، وضيق الأفق. وهذا ما دفعه إلى السفر إلى بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، وهناك وجد الكاتب شكلا لرواية تتمحور حول أوروبا، وروايته حافلة بالشخصيات، وهو ما يذكرنا بالفيلم الكلاسيكي للمخرج روبرت ألتمان Short Cuts، فبدلا من التركيز على شخصية أساسية فإننا نصادف هنا سلسلة من الأشخاص الفاعلين الذين يتقابلون مع بعضهم البعض في متاهة المؤسسات الأوروبية في بروكسل، إما مصادفة أو بعد ترتيب، فيعقدون تحالفات، أو يتحاربون ويحيكون المكائد لبعضهم البعض، ويلفت النظر أننا لا نجد مبادئ مشتركة حقيقية تجمع بينهم، أو تفاعلا بين الشخصيات، ويتناول ميناسه بشكل ساخر سعي العاملين في المفوضية الأوربية إلى مصالحهم القومية الضيقة، وهذه السخرية تجعل قراءة الرواية قراءة ممتعة للغاية، والمحور الذي تدور حوله هذه القصص هو الحدث الكبير المرتقب، الاحتفال باليوبيل الذهبي على تأسيس الاتحاد الأوروبي، ما أعجبني في هذه الرواية هو الرسم البارع للشخصيات المختلفة، وكذلك السخرية في تناول هذا الموضوع الجاد.
لماذا تقول عن رواية "العاصمة" إنها أهم رواية ترجمتها في السنوات الأخيرة؟
كما قلت، هذه رواية كبيرة بكل معنى الكلمة، ليس فقط فيما يتعلق بحجمها (حوالي 550 صفحة في الطبعة العربية)، بل بسبب موضوعها وتعدد زوايا معالجته، لقد برع الكاتب في رسم شخصيات من دم ولحم، شخصيات متباينة كل التباين، يتعاطف معها القارئ كلها، ورغم "ثقل" الموضوع الرئيسي، أي الاتحاد الأوروبي، فقد نجح المؤلف في كتابة رواية شائقة، لا تخلو من سخرية ومرح، يختلط فيها البعد البوليسي بالبعد الاجتماعي والسياسي، ولهذا نالت الرواية احتفاء نقديا وجماهيريا واسعا عقب صدورها عام 2017، كما أثارت نقاشا كبيرا حول أوروبا والاتحاد الأوروبي ومؤسساته، وهي العمل الأول الذي يتناول الاتحاد الأوروبي روائيا، وبرأيي، لقد نجح الكاتب في ذلك تماما.
كان هناك مشروع اتفاق مع هيئة الكتاب المصرية لترجمة الأعمال المسرحية الألمانية ضمن سلسلة"الجوائز".. ماذا تم؟
كان المشروع لنشر إحدى مسرحيات بريشت، وهي مسرحية "الخوف والرعب في الرايخ الثالث"، لكن المشروع توقف للأسف، لأن المسؤولين لم يروه مناسبا لخطتهم في النشر.
- ترجمت العديد من الأعمال الأدبية مثل: "عازفة البيانو" لإلفريدة يلينك و"الوعد" لفريدريش دورنمات"، "قاتل لمدة عام" لديليوش، "حرفة القتل" لنوربرت جشتراين، وغيرهم.. فكيف تحافظ على السمات الأسلوبية لكل كاتب على حدة؟
هدفي في الترجمة، ولا أعلم مدى نجاحي فيه – فهذا شيء متروك للباحثين في علم الترجمة والأدب المقارن– هو تقديم نص عربي وأمين للأصل، نص فصيح، لكنه لا يطمس هوية الكاتب اللغوية، لا أريد أن تصطبغ كافة ترجماتي بصبغتي اللغوية، بالطبع لي اختياراتي في اللغة، ولي أسلوبي، ولي ذائقتي، ولكني أحاول –قدر الإمكان– الحفاظ على اختيارات الكاتب الذي أترجم له، فإذا كان كاتباً يتعمد التكرار كسمة بلاغية، مثل توماس برنهارد في كتابه "صداقة"، فلا بد أن يلاحظ القارئ العربي ذلك في الترجمة، وإذا كانت يلينك تكتب أحياناً بـ"سوقية" و"ابتذال" متعمد، فلن أحجب ذلك في ترجمتي، وإذا كان الكاتب الألماني قد اختار أن يكتب جملا قصيرة شعرية مكثفة، مثل فولفجانج بورشرت، فسيكون من الخطأ ألا يتعرف القارئ العربي على خصوصيات أسلوبه من خلال الترجمة.
من هم كتابك المفُضلين في اللغة الألمانية؟
أحب كثيرا أعمال الكاتبين السويسريين ماكس فريش وفريدريش دورنمات، كما أنني أعتز بترجمتي لرواية "عازفة البيانو" للكاتبة النمساوية إلفريده يلينك. هذه كاتبة عملاقة في قدراتها اللغوية وسخريتها، أحببت للغاية تناولها النقدي لنظرة المجتمع الغربي الحديث للجنس، وتناولها لهذا الموضوع.
لماذا لا تترجم كتبُنا العربية إلى لغات أجنبية، لنُقرأ بالشكل الذي نستحق؟
مبدأي هو الترجمة إلى اللغة الأم، أي إلى لغتي العربية. وهناك من المترجمين الألمان من هم أقدر مني على نقل كتبنا العربية إلى الألمانية.
-بالنظر إلى الأعمال العربية المترجمة إلى لغات أجنبية؟ هل ترى مواصفات معينة يجب أن تتوافر في العمل العربي كتناول موضوعات معينة أو استخدام لغة معينة كي يترجم؟
نظرة إلى الكتب المترجمة إلى الألمانية تبين، عموما، أن اهتمام الناشرين الأجانب يكون أكثر بالمحتوى، بالموضوع، أكثر من الاهتمام بالقيمة الأدبية للعمل. الناشر الأجنبي يهمه بالطبع، وهذا أمر مشروع، أن يحقق كتابه نسبة مبيعات معينة، وبالتالي يختار موضوعات تهم قطاعا كبيرا من القراء، موضوعات تساعد القارئ على فهم الأوضاع في الشرق الأوسط مثلا، أو تدور في فلك أجواء غرائبية الشرق والحريم، إلخ.
ما أكثر كتاب استمتعت بترجمته؟
هذا سؤال صعب، لأن كل عمل ترجمته أحببته، وأحببت كاتبه، واستمتعت – بدرجات متفاوتة - بنقله إلى العربية. ولكن إنْ كان علي أن اختار اسماً واحداً من بين مَن ذكرت، فهو السويسري فريدريش دورِنمات. وهو أديب شامل بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. أحبُ عالمه وتناوله الفلسفي للقضايا الإنسانية الكبرى، لا سيما هوسه بفكرة العدالة، وعجز القانون عن الوصول إليها. هذا ما دفعني إلى ترجمة قصة "العطل" ضمن مجموعة "أبو حنيفة وأنان بن داوود"، وكذلك روايته البوليسية "الوعد" التي تُخفي تحت سطح السهولة والإثارة والتشويق أدباً مذهلاً في عمقه وجديته. أحببت أيضا أعمال ماكس فريش، قرين دورنمات. ومن الروايات التي استمتعت بترجمتها في الآونة الأخيرة رواية "العاصمة"، إذ إن الروائي النمساوي ميناسه يتمتع بحس سخرية عال جدا، وهو أمر شاق في الترجمة، لكنه ممتع أيضا.
ما جديدك الفترة القادمة؟
انتهيت من ترجمة رواية قصيرة، نوفيلا، للكاتب النمساوي أرتور شنيتسلر بعنوان "حلم"، وهي الرواية التي كانت أساسا للفيلم المشهور "عيون مغلقة على اتساعها" Eyes wide shut )1999) بطولة نيكول كيدمان وتوم كروز. وستظهر الترجمة لدى دار "الكرمة" بالقاهرة في خريف هذا العام، وحاليا أوشكت على الانتهاء من ترجمة رواية للكاتب النمساوي الكبير بيتر هاندكه بعنوان "دون جوان"، رواية شيقة يرسم فيها هاندكه صورة جديدة لشخصية العاشق الكبير دون جوان. وستصدر الرواية قريبا عن داري "سرد" و"ممدوح عدوان" بين دمشق وبيروت .