بريست-ليتوفسك.. معاهدة غيّرت مسار الحرب العالمية الأولى

حين انسحبت روسيا من أتون الحرب العالمية الأولى، لم يكن ذلك مجرد خروجٍ من صراعٍ دموي، بل كان نقطة تحول كادت تغير مجرى التاريخ لصالح ألمانيا.
فمن خلال معاهدة بريست-ليتوفسك، تنازلت روسيا عن أراضٍ شاسعة، ما أتاح للجيش الألماني تركيز قواته على الجبهة الغربية، والاقتراب من باريس في هجوم كاد يحسم الحرب لصالحه.
لكن لماذا قبلت روسيا بهذه الشروط القاسية؟ لم يكن الانسحاب قرارًا عسكريًا بحتًا، بل جاء وسط اضطرابات سياسية هزت الإمبراطورية الروسية. فمع سقوط القيصر وثورة البلاشفة بقيادة لينين، أصبحت الحرب عبئًا لم تعد روسيا قادرة على تحمله، ما دفعها إلى توقيع اتفاقية سلام.
ومع أن الانسحاب الروسي منح ألمانيا فرصة ذهبية، فإن دخول الولايات المتحدة الحرب بأعداد كبيرة قلب الموازين مجددًا. فما الأسباب التي دفعت روسيا إلى الانسحاب، ما منح ألمانيا فرصة للفوز بالحرب؟
بداية التحالفات: انضمام روسيا إلى الحلف الثلاثي
أصبحت ألمانيا دولة موحدة عام 1871 وحققت نصرًا سريعًا على فرنسا في الحرب الفرنسية البروسية، مما أثار قلق القوى الأوروبية الأخرى، التي رأت في ألمانيا الجديدة تهديدًا لأمنها ومصالحها الاستعمارية.
ومنذ تسعينيات القرن التاسع عشر، بدأ القيصر الروسي بتوثيق علاقات بلاده مع فرنسا بدلًا من ألمانيا، ثم سعى لاحقًا إلى تعزيز العلاقات مع بريطانيا.
في عام 1907، وقعت بريطانيا وروسيا اتفاقات مهدت الطريق لتحالف ثلاثي بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. وكان الهدف من هذا التحالف محاصرة ألمانيا وحلفائها في وسط أوروبا، وهم الإمبراطورية النمساوية المجرية وإيطاليا، التي كانت جزءًا من الحلف الثلاثي.
الثورة الروسية عام 1905: اضطرابات سياسية واقتصادية
ورغم قوة التحالف، كانت روسيا تعاني من اضطرابات سياسية واقتصادية، فعلى الرغم من حجمها الهائل، كانت دولة متخلفة اقتصادياً مقارنة بنظيراتها الأوروبية. كما كان فشلها في الحرب الروسية اليابانية بمثابة إهانة لروسيا، التي أصبحت أول قوة أوروبية تهزمها دولة آسيوية.
وأثار هذا الفشل غضب المواطنين الروس، مما أدى إلى اندلاع الثورة الروسية عام 1905، حيث طالب الشعب بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. ورغم أن الثورة لم تنجح في إسقاط النظام القيصري، فإنها أجبرت القيصر نيقولا الثاني على تقديم بعض التنازلات، مثل إنشاء ملكية دستورية وبرلمان (الدوما). رغم ذلك، لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية، واستمر الاستياء الشعبي.
1914-1917: الحرب العالمية الأولى تُرهق روسيا
اندلعت الحرب العالمية الأولى في صيف 1914 بعد اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند، ولي عهد النمسا، في سراييفو. دفع هذا الحدث أوروبا إلى سلسلة من إعلانات الحرب المتتالية، وانضمت روسيا إلى الحرب دعمًا لصربيا ضد ألمانيا والنمسا.
رغم اعتقاد الكثيرين في البداية أن الحرب ستكون "مناوشة" سريعة تعيد ضبط توازنات القوة، سرعان ما تحول الصراع إلى الحرب الأكثر وحشية ودموية على الإطلاق.
ورغم قدرتها على حشد قواتها بصورة أسرع مما كانت تتوقع ألمانيا، فإن معدات روسيا وتكتيكاتها كانت أقل حداثة. وبعد السنة الأولى من القتال، تعثرت الجبهة الشرقية في طريق مسدود رهيب. وعانى الاقتصاد الروسي من فقدان القوى العاملة والأراضي الزراعية في الغرب، مما أدى إلى تصاعد الاضطرابات المدنية.
سقوط القيصر والحكومة
بحلول فبراير/شباط 1917، كان الروس قد فقدوا الثقة تمامًا بقيادة نيقولا الثاني، واندلعت ثورة فبراير/شباط، وأدت الإضرابات الجماهيرية إلى شلّ الاقتصاد بالكامل، فيما رفض الجيش قمع المتظاهرين. ونتيجة لذلك، تنازل القيصر عن العرش في 2 مارس/آذار 1917، وتولت حكومة مؤقتة بقيادة ألكسندر كيرينسكي السلطة.
لكن الحكومة المؤقتة واجهت تحديات ضخمة، حيث اضطرت إلى تقاسم السلطة مع السوفيات (المجالس العمالية). ومن أخطائها الكبرى استمرار الحرب، رغم رفض الشعب لذلك، كما فشلت في تحقيق نجاح عسكري ملموس.
إعادة لينين إلى روسيا
بينما كانت روسيا تتعثر تحت إدارة الحكومة المؤقتة، سافر ماركسي يُدعى فلاديمير لينين بالقطار عبر ألمانيا باتجاه روسيا. كان هدفه بدء ثورة شيوعية في وطنه، الذي كان منفياً عنه قبل سنوات.
ووافقت ألمانيا، التي كانت في حالة حرب مع روسيا، على المساعدة في إعادة الزعيم المنفي، معتقدة أن إعادة متطرف إلى روسيا المتعثرة قد يؤدي إلى انهيار داخلي.
هجوم بالغاز السام
في 23 أبريل/نيسان 1917، وصل لينين إلى بتروغراد. وبفضل خطابه الحاد وشعاراته الجذابة مثل: «السلام، الأرض، الخبز»، بدأ لينين في كسب شعبية كبيرة، خاصة بين العمال والفقراء.
أكتوبر 1917: الثورة البلشفية واستيلاء لينين على السلطة
في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1917، قاد لينين وأنصاره (الحرس الأحمر) انقلابًا مسلحًا ضد الحكومة المؤقتة، التي كانت قد فقدت دعم الشعب. واستولى البلاشفة على القصر الشتوي في بتروغراد، مما جعلهم الحكومة الجديدة لروسيا.
لكن السيطرة على العاصمة لم تعنِ السيطرة على كل روسيا، حيث اندلعت حرب أهلية بين الشيوعيين (الحُمر) وأعدائهم (البيض)، مما جعل من المستحيل على روسيا مواصلة الحرب العالمية الأولى.
مارس 1918: روسيا توقع معاهدة السلام
بعد استيلائه على الحكم، طالب لينين بإنهاء الحرب فورًا. وفي 2 ديسمبر/كانون الأول 1917، وقعت روسيا هدنة مع ألمانيا، وأعقبها توقيع معاهدة بريست-ليتوفسك في 5 مارس/آذار 1918، التي أنهت الحرب بين روسيا دول المحور (ألمانيا، النمسا-المجر، الدولة العثمانية).
ومنحت روسيا ألمانيا أراضي شاسعة، بما في ذلك دول البلطيق، وفنلندا، ومعظم بولندا وليتوانيا، وأجزاء من أوكرانيا وبيلاروسيا. ورغم الغضب الداخلي بسبب هذه الخسائر، رأى لينين أن الانسحاب ضرورة للفوز بالحرب الأهلية.
نتائج المعاهدة: الهجوم الألماني الكبير
وسمح الانسحاب الروسي لألمانيا بنقل خمسين فرقة من الجبهة الشرقية إلى فرنسا. وفي 21 مارس/آذار 1918، بدأت ألمانيا هجوم الربيع، الذي كاد يحسم الحرب لصالحها. لكن دخول القوات الأمريكية بأعداد كبيرة رجّح كفة الحلفاء، وانتهت الحرب في نوفمبر/تشرين الثاني 1918 بتوقيع ألمانيا هدنة.
ما بعد الحرب: اضطرابات في أوروبا الشرقية
تسببت المعاهدة في تغييرات جغرافية وسياسية هائلة، حيث تحولت الأراضي التي تنازلت عنها روسيا إلى جمهوريات مستقلة مؤقتًا، لكن سرعان ما اجتاح السوفيات بعضها مثل أوكرانيا، في حين خاضوا حربًا مع بولندا (1919-1921) لكنها انتهت بالفشل.
كما أدت التدخلات الغربية خلال الحرب الأهلية الروسية إلى توتر طويل الأمد مع الاتحاد السوفياتي، ولم تستأنف الولايات المتحدة العلاقات الدبلوماسية مع موسكو حتى 1933.
aXA6IDMuMTQ0LjEzOC4xMzMg جزيرة ام اند امز