الفرصة الأخيرة لساندرز ربما ستكون المناظرة التي ستجرى بينه وبين "بايدن" الأحد ١٥ مارس الجاري، قبيل الانتخابات في ولايات أخرى.
أصبح "جو بايدن"، نائب الرئيس السابق، أثناء ولاية الرئيس باراك أوباما قاب قوسين أو أدنى من الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، لكي يكون المنافس أمام الرئيس دونالد ترامب، مسيرة الرجل حتى الآن كانت أشبه بتلك العربات في مدينة الملاهي التي تصل إلى أقصى ارتفاع ثم تنحدر فجأة إلى أسفل السافلين، وها هي ترتفع مرة أخرى تعود به إلى حيث كان يريد منذ البداية، المرشح المحتمل والأكثر رجاحة، إمكانيات فوزه في واجهة الخصم الجمهوري تمثل قصة أخرى سوف نختم بها الحديث.
البداية بدت كما لو كان لا يوجد خيار آخر، فلم يكن ممكنا أن يتغاضى الديمقراطيون عن رفيق وصفي بطل الديمقراطيين المحبوب "باراك أوباما"، وصاحب السجل الكبير في الخدمة العامة في الكونجرس ولجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، فضلا عن الخدمة في مؤسسات كثيرة.
جميع استطلاعات الرأي العام الأولية كانت تشير إلى أن "بايدن" هو المرشح الطبيعي للحزب، والذي لديه من الخبرة ما يجعله قادرا على مناطحة خصم عنيد مثل ترامب، ولكن ما أن بدأت المنافسة مع ٢٤ مرشحا، وبدأت اللقاءات الصحفية تتابع، إلا وأخذ الضوء يتراجع عن المرشح الأول.
بات الحزب منقسما في الأساس إلى قسمين، كلاهما يريد الإطاحة بالرئيس ترامب خارج البيت الأبيض، الأول أن يكون المرشح مناقضا لترامب تماما، وثوريا حقيقيا، لأن الأمريكيين -وهكذا كان الادعاء- يريدون أمرا جديدا، ثوريا في الجوهر على كل ما أدى لاعتلاء ترامب للسلطة ورفض الوسطيين من أمثال هيلاري كلينتون.
والثاني أن دور المرشح الديمقراطي إذا ما سكن البيت الأبيض أن يستعيد الاستقرار والاعتدال إلى النظام السياسي الأمريكي مرة أخرى، والاستقرار للمؤسسات التي قامت عليها الدولة، من وجهة نظرهم أن الرئيس ترامب كان خروجا على النخبة السياسية الأمريكية القائمة على التقاليد التي وضعها الآباء المؤسسون الأوائل للدولة الأمريكية.
"المؤسسة الديمقراطية" حشدت المعتدلين والسود والأقليات من المرأة حتى المناهضين لسياسات "ترامب" في المناخ والعلاقات مع الحلفاء والخصوم مثل الصين وإيران وروسيا
"بايدن" كان بالتأكيد الممثل للتيار الثاني في الحزب الديمقراطي، بينما لسبب أو آخر كان "بيرني سوندورز" هو الممثل للتيار الأول. هذا الأول كان ثوريا راديكاليا، أما الثاني فكان معتدلا مؤسسيا. ولكن كلاهما كان له شركاء في التيار الذي اعتلاه، وفي الجولة الأولى بدا أن "بايدن" يواجه حزمة من المرشحين الأكثر شبابا، والأكثر تجاوبا مع شباب الأمريكيين، أما "سوندورز" فرغم أن سنه مثل "بايدن" -٧٨ سنة- فإن أفكاره الراديكالية الخاصة بالصحة والتعليم جعلته المرشح الأول بلا منازع في الانتخابات التمهيدية الأولى في ثلاث ولايات، وكان "بايدن" فيها لا يزيد مكانه عن الثالث أو الرابع.
سقط "بايدن" من حالق، وبات الحديث عن المرشح المتقدم "سوندورز" هو حديث الساعة، على الرغم من أنه لم يكن ينقصه وجود منافسين على المقعد "التقدمي في الحزب مثل عضوة مجلس الشيوخ "إليزابيث وارين" التي كانت مرشحة هي الأخرى. ولمن لا يعرف فإن الانتخابات الأمريكية يحكمها أحيانا ما يسمى قوة الدفع، وقد كانت هذه القوة قد باتت في يد "سوندورز" ولكن هذه القوة لم تكن كافية لكي تبقي الرجل في المقدمة دائما.
كانت انتخابات ولاية "ساوث كارولينا" نقطة فاصلة، حيث فاز بها "بايدن"، واعتلى منصة التقدم لأول مرة، وعندما جاءت انتخابات "الثلاثاء السوبر" تنافس فيها المرشحون في ١٤ ولاية أمريكية تحمل نحو ثلث عدد الموفدين لمؤتمر الحزب، وفاز "بايدن" بعشرة منها، أما "سوندورز" ففاز في أربعة، وفي الثلاثاء التالي كان هناك ست ولايات فاز نائب الرئيس السابق في خمس منها، أما سوندورز فكان نصيبه واحدة، صعد بايدن بسرعة الصاروخ مرة أخرى.
وبالنظر إلى التوزيع النسبي للحزب من الموفدين إلى مؤتمر الحزب فإنه من الصعب على أي مرشح أن يشكل الكثير من التحدي. أصبحت الخريطة أكثر ملاءمة لبايدن في الأسابيع المقبلة، وتشير الاستطلاعات إلى أن ساندرز سوف يواجه خسائر فادحة في المسابقات القادمة في فلوريدا وأريزونا وجورجيا.
وعلى الرغم من أن "بايدن" لم يصل بعد إلى نصف الطريق من الموفدين فإنه من وجهة نظر المشرعين والناشطين الديمقراطيين، انتهى السباق وفاز بايدن. تحول نقاد ومحللون على الإنترنت من الحديث عن "بايدن" ضد "ساندرز" إلى التكهنات حول إجراء منافسة محتملة بين بايدن والرئيس ترامب.
ولكن ما حدث لبايدن لم يكن في جزء كبير منه راجعا للرجل ذاته رغم تاريخه الطويل في السياسة الأمريكية، وإنما لأن "المؤسسة" الديمقراطية تحركت في النهاية لكي توفر تحالفا كبيرا من "المعتدلين" الذين خرجوا من الانتخابات ثم بايعوا نائب الرئيس السابق على أن يكون مرشح الحزب. وكان ما جرى مع المعتدلين هو ما جرى مع الأقليات، خاصة الأمريكيين من أصول أفريقية.
وشكل فوز "بايدن" في النقطة الفارقة لولاية "سوث كارولينا" انعكاسا لدور الأقلية الأفريقية التي سببت اكتساحا في الولاية ومؤشرا لولايات الجنوب التالية، حيث تزيد نسبة الأمريكيين الأفارقة، لكي تكرر ما جرى.
وكان ذلك ما حدث في انتخابات الولايات التي جرت الانتخابات فيها، المدهش أن "سوندورز" "التقدمي" لم ينجح في جذب أصوات الأمريكيين الأفارقة، وكان ذلك تذكير صارخ بأن المرشح لا يمكنه الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي دون دعم من الناخبين السود الذين قضوا على حملته السابقة لعام 2016 ضد وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، وكلفته مرة أخرى كثيرا في عام 2020.
"المؤسسة الديمقراطية" حشدت المعتدلين والسود والأقليات من المرأة حتى المناهضين لسياسات "ترامب" في المناخ والعلاقات مع الحلفاء والخصوم مثل الصين وإيران وروسيا.
كان لبايدن اليد العليا بين البيض بدون درجة جامعية، والعمال والريفيون الذين أعطوا أصواتهم لسنودرز بكرم عام ٢٠١٦ والآن تراجعوا عن دعمهم هذه المرة، ووجدوا في "بايدن" بيتا جديدا.
الفرصة الأخيرة لسوندورز ربما سوف تكون المناظرة التي سوف تجرى بينه وبين "بايدن" الأحد ١٥ مارس الجاري، قبيل انتخابات في ولايات أخرى، اختبارا أخيرا لقدرات "سوندورز" في استغلال ضعف "بايدن" السابق في المنازلة الكلامية، فمع زيادة المخاوف من التجمعات الكبيرة بسبب الخوف من انتشار عدوى فيروس كورونا فإن المناظرات باتت ساحة مركزية لحصد الأصوات، وهو تطور في غير صالح "سوندورز" الذي كان يعتمد على جذب عشرات الآلاف إلى مسيراته الصاخبة.
المرجح هو أن نتيجة الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري باتت محسومة، وأن وقت التأرجح لبايدن قد انتهى على الأقل حتى انعقاد مؤتمر الحزب في مدينة "ميلووكي" خلال الصيف.
كان اختيار "المؤسسة" لبايدن لأسباب برجماتية بحتة، فما يهم المؤسسة "الديمقراطية" الآن ليس انتخاب المرشح للديمقراطي وإنما هزيمة المرشح الجمهوري دونالد ترامب. والحقيقة أن الخوف من الهزيمة ربما كان الدافع وراء الالتفاف حول بايدن، فسوندورز اليساري والاشتراكي كان يمثل تحديا مثاليا بالنسبة لترامب، الذي لو كان هو الذي يختار بين المرشحين الديمقراطيين لكان "سوندورز" هو اختياره.
وباختصار فإنه كان في الأمر وجه أكثر تحديدا، وهو أن موجة اليمين في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة لا تزال في أوجها، وإذا كان هناك من درس يمكن تعلمه من الانتخابات البريطانية فإن اتجاه حزب العمال البريطاني إلى اليسار كان هو الذي أعطى للمحافظين وبوريس جونسون الفوز الكبير.
وإذا كان مرشح اليسار لا يمكنه الفوز على مرشح اليمين في هذه المرحلة من تاريخ العالم فإن المرشح "المعتدل" حامل تقاليد "باراك أوباما" و"بيل كلينتون" ربما يكون لديه فرصة في السبق، الأسباب "برجماتية" بحتة، ولم يبق منها إلا إقناع "سوندورز" بالانسحاب وتأييد "بايدن" فقبل وبعد كل شيء فإن "سوندورز" لديه مؤيدون من الشباب، وبين اللاتينيين الأمريكيين لا يريد أحد ضياعها، والقصة المثيرة سوف تظل معنا لفترة مقبلة!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة