ما حدث لأردوغان بإدلب قد يكون "بروفة" بتخطيط روسي محكم، وليس بعيداً أو مستحيلاً تطبيقه في غير مكان على الأرض السورية المحتلة تركياً.
الوقائع أثبتت عجز تركيا عن مواجهة روسيا في الميدان والسياسة مباشرة أو حتى عبر الوكلاء، وبرهنت على براعة بوتين في إدارة ملف العلاقات مع الشريك-الخصم دون خسائر، بل العكس تماما حصل وحقق عدداً من المكاسب، أردوغان ورغم صلفه يبدو أنه بات على قناعة بأن المسلحين المتبقين في بعض مناطق إدلب وجوارها في شمال اللاذقية وحماة أعجز من الصمود أمام الجيش السوري المدعوم من روسيا، حتى ولو فتح لهم خزائن سلاحه وعتاده.
المسلحون وبعد هزيمة أردوغان في منتصف معركة إدلب يدركون جيداً أن لا مجال للتعويل على حاضنتهم التركية بعد الآن، أردوغان انحنى للعاصفة الروسية في إدلب لكي تمر بأقل الخسائر عليه، وراح يعمل على التقاط أنفاسه عبر الدفع بجنوده وعتاده ثانية إلى مواقع وجوده داخل الأراضي السورية؛ عملية لا تعدو عن كونها محاولة بائسة ويائسة لترميم صورته الشخصية التي اهتزت في إدلب وفي موسكو على حد سواء.
ظاهرة الاستياء الشعبي في بعض مناطق إدلب تتفاعل بعد الإذعان التركي وتوقيع الاتفاق مع موسكو إبان المواجهة الأخيرة غير المباشرة بين الجانبين، وبقدر ما تنطوي عليه من إشارات فإنها تشكل عبئاً إضافياً على كاهل أردوغان شخصياً وعلى بلاده عموماً، الاستياء لم يكن بشأن الإذعان التركي أمام روسيا فحسب بل أيضا جراء الخشية من تسليم الرئيس التركي ما تبقى من مناطق إدلب لدمشق عبر الجانب الروسي كما جرت العادة في كثير من المدن السورية وتبعات ذلك على المسلحين والسكان.
اللافت في موازاة ذلك استمرار الجانب التركي في عملية حشد المزيد من القوات والعتاد في مواقعها الموجودة في محافظة إدلب، وتحديدا منذ بداية مارس/آذار الجاري، أي أثناء وبعد اتفاق موسكو؛ حيث قُدّر عدد الآليات العسكرية التي تم إدخالها بأكثر من أربعة آلاف آلية وشاحنة عسكرية تحمل دبابات ومدرعات وناقلات جند ورادارات عسكرية.
في حين قدّر عدد الجنود الأتراك الذين تم الزّجّ بهم خلال هذه الفترة بأكثر من تسعة آلاف، لماذا يحشد أردوغان قوات إضافية؟ ألم يتفق مع بوتين على خطوط التماس الجديدة التي رسمتها المعارك الأخيرة لصالح دمشق وموسكو؟ هل يبيّت أردوغان لعمل عسكري جديد ضد الجيش السوري وحلفائه في تلك المنطقة؟ وهل يستطيع القيام بذلك بعد هزيمته العسكرية والسياسية والمعنوية وفي ظل القرار الروسي بدعم دمشق التام حتى إنهاء الوجود المسلح المعارض للنظام نهائيا في سوريا؟ أم هل يتهيأ لتنفيذ التزاماته أمام نظيره الروسي بتنفيذ اتفاق سوتشي بالقضاء على المنظمات الإرهابية الموجودة في إدلب كهيئة تحرير الشام وسواها؟ جميع المعطيات والمؤشرات توحي بأن ثمة معركة تلوح في أفق إدلب وحولها، والاستياء الشعبي المسجل ضد أردوغان هناك بداية افتراق جدي بينه وبين مريديه وانعدام للثقة به بعد تخليه عنهم وظهوره بمظهر العاجز عن حمايتهم أو حتى احترام عهوده وتعهداته لهم.
لن يستطيع استدراج الناتو إلى جانبه مستقبلا، في حال كان رهانه على احتمال أن تقوم روسيا بقصف وحداته، فموسكو ترصد جميع مناوراته وحشوده على الأرض ولا تعترض أو تهدد أو تصطدم معها، بل قامت بتعزيز قواتها في سوريا من خلال شحنات السلاح والعتاد في السفن البحرية الروسية التي عبرت مضيق البوسفور.
يقف العثماني الجديد اليوم على مفترق طرق بسبب إقحام نفسه وبلده في المستنقع السوري، فلا عاد الارتجال في السياسة مجدياً بعد أن خذله حلفاؤه قبل مؤيديه، ولا عادت ردات الفعل المتهورة تحقق أغراضها بعد أن وجد نفسه في مواجهة قوة عظمى تصوغ سياستها
وبذلك تركت روسيا وحدات الجيش التركي الداخلة لواحد من مصيرين، فإما أن تكون في مواجهة الجيش السوري مستقبلا بغطاء روسي جوي وصاروخي إذا حاولت الهجوم كما حدث سابقا، وإما أن تتخذ الحشود التركية سبيلها لمواجهة الفصائل المسلحة الإرهابية تنفيذا لاتفاق سوتشي وإنهاء وجودها، وفي كلتا الحالتين سيغوص أردوغان وجنوده أكثر في الرمال السورية المتحركة.
حبال التعقيدات التي تلتف حول الرئيس التركي في سوريا لا تقتصر على ما تبقى من جغرافية إدلب، بل ربما تكون هذه المنطقة الأقل صعوبة وتكلفة عليه في المواجهة المفتوحة ضده من الجانب الآخر، خاصة إذا ما نظرنا إلى الفضاء الجغرافي الذي احتله من الأراضي السورية على امتداد أربع محافظات سورية في الشمال، بكل ما تحمله من تحديات ومصاعب عسكرية وسياسية وأمنية واقتصادية على تركيا في الداخل كما في الخارج .
فهو مقبل حتماً على مواجهة مع الجانب السوري وحليفه الروسي، إما في الميدان لاستعادة المحتل من أراضيها، وإما في غرف التفاوض لرسم خارطة طريق لخروجه وانسحابه من الأراضي السورية المحتلة كاملة، من خلال توافقات واتفاقات وتفاهمات ظاهرها حفظ ماء وجهه ومضمونها إجهاض مشروعه وهزيمته، ويقف العثماني الجديد اليوم على مفترق طرق بسبب إقحام نفسه وبلده في المستنقع السوري، فلا عاد الارتجال في السياسة مجدياً بعد أن خذله حلفاؤه قبل مؤيديه، ولا عادت ردات الفعل المتهورة تحقق أغراضها بعد أن وجد نفسه في مواجهة قوة عظمى تصوغ سياستها وتنفذها بقلب بارد وعقل متزن متكئ إلى تاريخ بعيد في حسابات المصالح.
ولا شك في أن أردوغان وقع في فخ السلوكيات والتصرفات غير المدروسة وغير المحسوبة النتائج في الملف السوري مما يدل على غياب الرؤية الثابتة والاستراتيجية عن حساباته، فدمشق ومن ورائها موسكو لن تقبل تحت أي ظرف أو سبب بقاء المحتل التركي على بقعة من أراضيها، ومقاومة احتلاله للشريط الشمالي لسوريا لن تتوقف على دمشق وداعمتها موسكو، وقد تفرض مواجهته عودة التفاهم بين السلطات السورية والقوى الكردية السورية وجميع مكوناتها، لتشكيل جبهة واحدة ضد الاحتلال التركي وتوسيع دائرة المواجهات على امتداد المناطق التي يحتلها، واستدراجه إلى حرب استنزاف، يكون في نتيجتها هو الخاسر الأكبر، خاصة أن قائمة رافضي سياسته ونزعته التوسعية تطول عربياً وإقليمياً ودولياً وكذلك داخلياً.
ما حدث لأردوغان في إدلب قد يكون "بروفة" بتخطيط روسي محكم، وليس بعيداً أو مستحيلاً تطبيقه مستقبلاً في غير مكان على الأرض السورية المحتلة تركياً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة