لا أحد يعرف عما إذا كان الرئيس ترامب جاداً في عرض الفكرة أم أنه كان يُطلق بالون اختبار ليعرف ردود الفعل عليها
تداولت وكالات الأنباء يوم الخميس الماضي الموافق 15 أغسطس 2019 الخبر الذي نشرته جريدة وول ستريت في اليوم نفسه عن طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من المستشار القانوني للبيت الأبيض دراسة الجوانب القانونية لشراء جزيرة "جرينلاند" التابعة لمملكة الدنمارك، وجاء هذا الطلب قبل زيارة الرئيس للدنمارك بأسابيع عدة.
وأثار هذا الخبر ردود فعل متباينة في العالم وازدحمت المنصات الإلكترونية بالتعليقات فاعتبرها البعض فكرة طارئة أو نزوة عابرة للرئيس، وانتقدها آخرون لغرابتها. بينما اعتبرها فريق ثالث جزءاً من أسلوب الرئيس ترامب في الإثارة وجذب الاهتمام.
وكانت أكثر ردود الفعل وضوحا وحدة هي التي أتت من الدنمارك نفسها، فعبر أحد كبار سياسييها الذي شغل منصب رئيس وزرائها عن صدمته لسماع الخبر ووصفه بأنه كذبة أبريل التي جاءت في غير موعدها، ورفض وزير خارجية ولاية جرينلاند الفكرة بأن "الجزيرة ليست للبيع".
وتهكمت واشنطن بوست في مقال كتبته ألكسندرا بيتي في 16 أغسطس بعنوان "جزيرة الإمبراطور الجديدة". وفي السياق نفسه تندرت مجلة الفورين بوليسي على الموضوع برمته في مقال لها يوم 17 أغسطس بعنوان "الصفقة المتجمدة" frozen deal.
لا أحد يعرف عما إذا كان الرئيس ترامب جاداً في عرض الفكرة أم أنه كان يُطلق بالون اختبار ليعرف ردود الفعل عليها قَبل زيارته المُقبلة للدنمارك ولكي يُنبه الرأي العام الأمريكي إلى أهمية ازدياد الوجود الأمريكي في القطب الشمالي
والإشارة هنا إلى جزيرة جرينلاند التي تعني باللغة العربية الأرض الخضراء، وهي تسمية فيها من التمني أكثر من الحقيقة فالمساحة الخضراء أو المزروعة فيها تتجاوز بقليل عشر (10/1) مساحتها التي تبلغ 2.2 مليون كيلومتر مربع، بينما يغطي الجليد أكثر من 70% من مساحتها ويسكنها نحو 60 ألف نسمة يتحدثون لغة خاصة بهم.
وتنبع أهمية هذه الجزيرة من أنها تقع شمال المحيط الأطلسي وفي منتصف الطريق بين القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية، فضلًا عن قربها من حدود روسيا.
وبغض النظر عن الطريقة التي عرض بها ترامب الفكرة، فلا بد من فهمها في إطار ازدياد الأهمية الاستراتيجية للقطب الشمالي وهو المنطقة التي يطلق عليها أحياناً سقف العالم أو منطقة المُحيط المتجمد الشمالي وهي منطقة يُماثل وضعها القانوني الوضع الخاص بأعالي البحار وتجاوره خمس دول هي: روسيا، الولايات المُتحدة، كندا، النرويج، والدنمارك.
أدركت أمريكا الأهمية العسكرية لمنطقة القطب الشمالي مبكرا، وفي بدايات الحرب العالمية الثانية وقعت مع الدنمارك عام 1940 اتفاقية قامت بموجبها ببناء قاعدة عسكرية في جرينلاند لمنع ألمانيا النازية من السيطرة عليها واستخدامها ضد الحُلفاء.
وفي السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، مثلت منطقة القطب الشمالي إحدى الساحات الرئيسية للنفوذ والمواجهة بين القوى الكبرى خاصة بعد التغيرات المناخية وذوبان الجليد. وسعت الولايات المتحدة لزيادة وجودها العسكري في المنطقة لحماية أمنها القومي، وذلك في مواجهة التحركات الروسية والصينية التي تعدها الإدارة الأمريكية مصدراً لتهديد مصالحها الاستراتيجية العليا.
فروسيا من ناحية، قامت بعمل طلعات جوية فوق جزيرة جرينلاند وصفها وزير الدفاع الدنماركي في مايو الماضي بـ"الاستفزازية" وذلك بمُعدل ثلاث مرات شهرياً منذ عام 2013, وأنها تُمثل انتهاكاً لسيادة الدنمارك وأنه في حال استمرارها فإن بلاده سوف تُنشئ نظاماً دفاعياً لمنع تلك الطلعات، وأعلن الرئيس بوتين عن استراتيجية تطوير "القطب الشمالي الروسي" وذلك حتى عام 2035 التي بموجبها سوف يتم تطوير أسطول بحر الشمال، وإقامة استحكامات ومُنشآت عسكرية في مدينة تكسي ومحطة رادار في جزيرة كوتيلني، وتوفير عدد أكبر من كاسحات الجليد منها 9 كاسحات نووية.
أما الصين، فتطمح إلى إدخال منطقة القطب ضمن استراتيجية "الحزام والطريق" وأن تنشئ طريقا لنقل البضائع من الصين إلى آسيا وأوروبا عن طريق البحر، وعرضت على الدنمارك تمويل ثلاثة مطارات في الجزيرة ما أثار قلق واشنطن واعتراضها.
ولكن لماذا طرح الرئيس ترامب فكرة شراء الجزيرة وليس الدخول في مفاوضات مع الدنمارك- وهي عضو في حلف الناتو- لإقامة مزيد من القواعد العسكرية عليها؟
يعود هذا أولاً إلى الأهمية الاستراتيجية لهذه الجزيرة ورغبة الولايات المتحدة في الحصول عليها كاملة، وبسط سيادتها عليها بحيث تكون حرة فيما تتخذه من إجراءات بشأنها أو ما تقيمه من قواعد واستحكامات عسكرية عليها.
ويعود ذلك ثانياً إلى بسط الدولة لسيادتها على أراضٍ جديدة يتم الحصول عليها من خلال الشراء وتنازل دولة أخرى عنها هي فكرة موجودة في القانون الدولي العام وإن كانت غير متداولة اليوم. وقد مارست الولايات المتحدة ذلك في أكثر من مناسبة.
ففي عام 1803، أوفد توماس جيفرسون-وهو ثالث رئيس أمريكي- وزير خارجته جيمس مونرو للتفاوض مع الإمبراطور نابليون بونابرت بشأن شراء منطقة لويزيانا الفرنسية وبالفعل تم توقيع صفقة مع فرنسا لشراء منطقة "لويزيانا الفرنسية"، وذلك مقابل 60 مليون فرنك فرنسي وإسقاط ديون فرنسية بلغت 18 مليون فرنك فرنسي.
وفي عام 1867، وفي عهد أندرو جونسون" الرئيس السابع عشر للولايات المُتحدة" تم إبرام مُعاهدة مع روسيا التي كان يحكمها وقتذاك القيصر ألكسندر الثاني تم بموجبها تنازل روسيا عن منطقة ألاسكا للولايات المُتحدة وذلك مُقابل 7 ملايين و200 ألف دولار، وأعلنت ألاسكا في عام 1959 كإحدى الولايات الأمريكية.
وفي عهد ودرو ويلسون الرئيس الثامن والعشرين، اشترت الحكومة الأمريكية في عام 1917 جُزر الهند الغربية الدنماركية وهي مجموعة جزر صغيرة في البحر الكاريبي وذلك مُقابل 25 مليون دولار وأعادت تسميتها بجزر العذراء الأمريكية ومنحت أهلها الجنسية الأمريكية منذ عام 1927 ولكنها لم تُدخل تلك الجُزر ضمن إقليم الدولة الأمريكية.
وكانت هُناك محاولات لم تنجح ففي عهد الرئيس فرانكلين بييرس الرئيس الرابع عشر سعى وزير الحربية "جيفرسون دافيس" الذي تولى منصبه خلال الفترة 1853-1857 لشراء أجزاء من شمال المكسيك وذلك لاستكمال مد خطوط السكك الحديدية القارية. وفي عام 1867 وهو عام شراء إقليم ألاسكا نفسه، بحثت وزارة الخارجية الأمريكية إمكانية شراء جزيرة جرينلاند الدنماركية، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، اقترح الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة بمبلغ 100 مليون دولار ولكن الدنمارك رفضت الفكرة.
ولم يقتصر اكتساب السيادة على الأقاليم عن طريق التنازل والبيع على أمريكا فقد قامت بريطانيا بالشيء نفسه في حالة هونج كونج وفي حالة شبة جزيرة كولون الصينية. فبعد حرب الأفيون الأولى التي أعلنتها بريطانيا ضد الصين خلال الفترة 1893-1842، تنازلت الصين عن ميناء هونج كونج الذي أعلنته لندن مُستعمرة إنجليزية وكان ذلك بمقتضى معاهدة ناجينغ التي وقعها كل من الملكة فكتوريا والإمبراطور داوغوانغ في 28 أغسطس 1842.
وتكرر الشيء نفسه بالنسبة لشبة جزيرة كولون بعد حرب الأفيون الثانية التي شنتها بريطانيا على الصين خلال الفترة (1856-1860)، فبعد هزيمة الصين في الحرب أجبرتها السلطات البريطانية على الموافقة على تأجير هذه المنطقة لها في شهر مارس 1860 ثُم سُرعان ما تحول الإيجار إلى تنازلٍ عنها دون مُقابل في اتفاقية بكين الأولى الموقعة في 18 أكتوبر من العام نفسه. وعلى مدى السنوات التالية، عادت الأمور إلى نصابها واستعادت الصين سيادتها على هذه المناطق.
لا أحد يعرف عما إذا كان الرئيس ترامب جاداً في عرض الفكرة أم أنه كان يُطلق بالون اختبار ليعرف ردود الفعل عليها قَبل زيارته المُقبلة للدنمارك ولكي يُنبه الرأي العام الأمريكي إلى أهمية ازدياد الوجود الأمريكي في القطب الشمالي.
أما عَرضه لفكرة الشراء فقد يكون ذلك استمراراً للخبرات الأمريكية السابقة في هذا الشأن، وقَد يكونُ لتفضيل ترامب النظَر إلى العلاقات الدولية باعتبارها مجموعة "صفقات" وأُشير إلى أنه في تصريحاته في بداية هذا الأسبوع يوم 18 أغسطس فقد استخدم تعبير الصفقة مرة للحديث عن الاتفاق الذي يأمُله بين الإسرائيليين والفلسطينيين ومرة أُخرى في الحديث عن المُفاوضات المُرتقبة بين أمريكا وإيران. ليس هذا غريباً فترامب هو مؤلف كتاب "فَن الصفقة" الذي صدر عام 1987 وشرح فيه قواعد الوصول إلى الصفقة الناجحة التي يعد نفسه أفضل من يمارسها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة