التوجه نحو الصين.. استراتيجية أمريكا اللاتينية لمواجهة نفوذ ترامب (تحليل)
بعد أيام قليلة من توليه منصبه، أصبح من الواضح مدى استعداء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لقطاعات واسعة من المجتمعات والشعوب.
وما بين تنفيذ وعوده والميل للتشدد، ظهرت ملامح سياسة ترامب تجاه أمريكا الجنوبية. وتمحورت أهم القضايا حول اعتزامه استعادة قناة بنما، وترحيل المهاجرين غير الشرعيين بضوابط لا تقبلها دول القارة الجنوبية، وأخيراً فرض تعريفات جمركية مؤلمة على دول مثل المكسيك، فضلا عن التهديد بفرض تلك الرسوم على دول أخرى يعتبرها غير طيعة.
لكن القارة المليئة بالفرص الاستثمارية والمعادن النادرة والموارد الطبيعية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام الرئيس الجديد.
واعتبر محللون أن إحدى كبرى القضايا الملحة بالنسبة للولايات المتحدة هي زيادة تأثير الصين في القطاعات الاستراتيجية في أمريكا اللاتينية، وخاصة في مجالات الفضاء والمراقبة.
ونقل تحليل نشره موقع "ثينك تشاينا" عن الأكاديمي الأمريكي جون كالبريس أنه بينما يثير التوسع المتزايد للصين في هذه المجالات الحساسة قلقًا كبيرًا في واشنطن، فإن خطاب التحدي والسياسات العقابية للإدارة الأمريكية في عهد ترامب قد تقوض جهود الولايات المتحدة لتعزيز العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية والتعامل مع هذه التهديدات المحتملة.
الصين لاعب أساسي
ومع توسع الصين الاستثماري في أمريكا اللاتينية، أصبحت لاعبًا اقتصاديًا رئيسيًا في المنطقة. وتطوّر التفاعل الصيني مع أمريكا اللاتينية على مراحل متميزة، بدأت في أواخر التسعينيات مع التركيز على تأمين الموارد الطبيعية من دول مثل فنزويلا وبيرو والأرجنتين.
وخلال هذه الفترة، كانت جهود الصين تركز على الطاقة والسلع الزراعية، وتطوير علاقات تجارية، وتوسيع الأسواق للسلع المصنعة منخفضة التكلفة.
ساعدت هذه المرحلة الأولية في تثبيت الصين كلاعب اقتصادي رئيسي في المنطقة.
ومع تطور مصالح الصين، بدأت في تنويع التفاعل ليشمل قطاعات أكثر تقدمًا، مثل السكك الحديدية عالية السرعة، والبنية التحتية لشبكات الجيل الخامس (5G)، ومراكز البيانات، وأنظمة الطاقة.
وتتماشى هذه التحركات مع الأهداف الاستراتيجية الأوسع للصين في مجال التقدم التكنولوجي والترقية الصناعية. ويشكل هذا التحول نحو الاستثمارات عالية التقنية جزءًا من طموح الصين الأكبر لزيادة تأثيرها العالمي من خلال التقنيات المتقدمة.
وبشكل عام، تحوّل دور الصين في أمريكا اللاتينية من التركيز على استخراج الموارد إلى الاستثمارات التكنولوجية، مما يشير إلى جهد استراتيجي أوسع لتوسيع تأثيرها مع دعم أهدافها الطويلة الأجل في تحديث الاقتصاد والمنافسة العالمية.
واعتمد الانخراط الاقتصادي الصيني على أربعة أعمدة رئيسية: التجارة، والاستثمارات المباشرة الأجنبية، والإقراض الرسمي وتطوير البنية التحتية.
وأصبحت الصين الآن أكبر شريك تجاري للمنطقة والمستثمر الرئيسي في دول مثل البرازيل والأرجنتين وبيرو.
وتسلط المشاريع مثل مترو بوغوتا والسدود الكهرومائية في الإكوادور الضوء على عمق التمويل التنموي الذي تقدمه الصين، والذي بلغ 286.1 مليار دولار أمريكي بين عامي 2020 و2023. كما تمكنت الشركات المملوكة للدولة الصينية من السيطرة على الموانئ والمنشآت بالقرب من طرق التجارة الحيوية مثل قناة بنما ومضيق ماجلان، مما يعزز التأثير الاستراتيجي لبكين.
ومنذ عام 2015، تحولت الصين من الإقراض العام إلى الاستثمارات القطاعية في المركبات الكهربائية (EVs)، البطاريات، الرقمنة والذكاء الاصطناعي (AI)، حيث تخطط شركات مثل BYD لإنشاء مصانع للمركبات الكهربائية في البرازيل.
ويعزز السيطرة على عمليات التعدين للمعادن الحيوية موقع الصين في الانتقال العالمي للطاقة، بينما تعكس "الشراكات الاستراتيجية" مع اللاعبين الإقليميين الرئيسيين طموحاتها الدبلوماسية.
كما تمثل مشاريع مثل ميناء تشانكاي في بيرو، الذي يربط أمريكا الجنوبية مباشرة بأسواق منطقة آسيا والمحيط الهادئ، الأثر التحويلي للصين. حتى الزعماء المتشككون، مثل رئيس الأرجنتين خافيير ميلي، أعادوا توجيه السياسات للتفاعل مع الصين.
المخاوف الأمريكية
في المقابل، تتزايد مخاوف الولايات المتحدة إذ أثار التعاون الفضائي للصين مع دول مثل تشيلي والأرجنتين انتقادات، خصوصًا مع مشاريع مثل المرصد المقترح في تشيلي ومحطة "إسباسيو ليخانو" في الأرجنتين، حيث يُشتبه في أن هناك تداعيات عسكرية وراء التعاون العلمي المدني. بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود قواعد تجسس صينية في كوبا قد زاد من مخاوف الولايات المتحدة بشأن احتمال اعتراض الاتصالات العسكرية والفضائية.
كما قامت شركات التكنولوجيا الصينية مثل هواوي، وزي تي إي، وداهوا، وهيكفيجن، بتوسيع وجودها في مدن أمريكا اللاتينية، مقدمةً معدات المراقبة تحت ستار تعزيز تطبيق القانون. وقد أثارت هذه التطورات مخاوف بشأن التداعيات الأمنية على المصالح الأمريكية في المنطقة، بما في ذلك احتمال التجسس.
وبعض صانعي السياسات الأمريكيين، بما في ذلك وزير الخارجية ماركو روبيو، أعربوا عن مخاوفهم بشأن الوجود المتزايد للصين في المنطقة، محذرين من أن أمريكا اللاتينية قد تكون مهددة بالاندماج في "كتلة اقتصادية-سياسية خاصة" تحت النفوذ الصيني.
ولا تزال توجد استثمارات أمريكية عبر "شركة تمويل التنمية الدولية" (DFC) حيث تم الالتزام بتقديم أكثر من 11 مليار دولار لمشاريع مثل استخراج المعادن الحيوية في البرازيل وجهود الحفاظ على البيئة في الإكوادور.
لكن قد يؤدي الخطاب العدائي، إلى جانب تقليل التركيز على التعاون متعدد الأطراف، إلى تشكيل أمريكا اللاتينية ليس كشريك بل كميدان للتنافس بين القوى العظمى.
ولاية ترامب الثانية
وبحسب التحليل، فإن إدارة ترامب الجديدة على وشك أن تضع أمريكا اللاتينية في دائرة الضوء بشكل أكبر، حيث يتضمن فريق قيادتها أفرادًا تشير خبراتهم واتصالاتهم إلى تركيز استراتيجي على المنطقة، مثل ماركو روبيو كوزير للخارجية، وكريستوفر لاندو السفير السابق في المكسيك كنائب له، وماوريسيو كلافر-كاروني كمبعوث خاص.
ومع ذلك، فإن هذا التركيز المتجدد على أمريكا اللاتينية يشكله أسلوب القيادة الذي يركز على اتخاذ القرارات التبادلية، واتخاذ القرارات الشخصية، والموقف التصادمي.
وخلال خطابه الافتتاحي، أعاد الرئيس ترامب إحياء عقيدة التوسع في القرن التاسع عشر "القدر المحتوم" (Manifest Destiny)، معلنًا أن الولايات المتحدة مقدرة للتوسع إقليميًا.
وكرر الطموحات المثيرة للجدل، بما في ذلك الاستحواذ على قناة بنما وإعادة تسمية خليج المكسيك — وهي ادعاءات تم رفضها على الفور من قبل بنما.
كما أن تعليقه المستخف عند سؤاله عن العلاقات الأمريكية مع أمريكا اللاتينية، حيث قال: "نحن لا نحتاجهم، هم يحتاجوننا"، من غير المحتمل أن يعزز روح التعاون أو الصداقة في المنطقة.
بين زحمة القرارات التنفيذية التي وقعها في أول يوم له في منصبه، كان هناك إجراء يهدف إلى تصنيف بعض عصابات المخدرات كمنظمات إرهابية، مما يشير إلى تسييس سياسة الهجرة وفتح الطريق للطرد الجماعي.
في حين أن بعض القادة في أمريكا اللاتينية أكدوا استعدادهم للعمل مع الإدارة الأمريكية الجديدة، إلا أن آخرين أبدوا استياءهم من خطابها وسياساتها.
والحكومات اليسارية، في كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا، من المرجح أن تعمق علاقاتها مع الصين استجابة للضغط المتزايد والعقوبات الأمريكية.
كما قد تصبح دول مثل المكسيك وكولومبيا، الحليفين المهمين في استراتيجية الولايات المتحدة القارية، أكثر ترددًا في التوافق الكامل مع واشنطن إذا تم تصوير تعاونها كخضوع للمصالح الاستراتيجية الأمريكية بدلاً من الفائدة المتبادلة.