ماراثون البيت الأبيض.. الاستخبارات حائرة بين "المصيدة" و"الفراشة"

ما زال يلوح في الأفق خطر التدخل الأجنبي في الحملات الانتخابية، مستدعيًا سابقة التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2016.
ظل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب طوال سنوات حكمه الأولى رهين أزمة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، حيث اتسعت أروقة الاتهام الذي بدا بسيطا وقتها، لتطول فيما بعد أركان نظام الحكم وبنيته وأجهزته الأمنية والاستخباراتية.
والعام الماضي استقال المحقق الأمريكي روبرت مولر بعد أن أنهى تحقيقه في هذه القضية دون اتهام جنائي لأي مسؤول في حملة ترامب ولم يوجه أي تهم بالتآمر مع الحكومة الروسية للتدخل في انتخابات عام 2016. منذ ذلك الحين، جادل المدافعون عن ترامب بأنه كان محقًا طوال الوقت في أنه لم يكن هناك "تواطؤ"، وتساءل منتقدو مولر على كل من اليمين واليسار عما يدور حوله الأمر برمته.
ومع بدء العد التنازلي للانتخابات الرئاسية الأمريكية، فإن هذه القضية - التي كادت تعصف بمصداقية ماراثون البيت الأبيض برمته، وكادت تتسبب في الإطاحة بالرئيس الأمريكي - تضع أجهزة الاستخبارات الأمريكية في مأزق كبير، وتجعلها تبدو في حيرة بين اعتمادها الشفافية الكاملة في إظهار أي تأثير على نزاهة العملية الانتخابية ومجريات التصويت، أو السكوت حتى لا يتكرر ما حدث سابقا، حيث أدى تحذيرها إلى تصدعات كبيرة تركت ندوبا لم يشف منها النظام الأمريكي حتى الآن.
ومصيدة الشفافية للاستخبارات الأمريكية، تثير المخاوف من نظرية "تأثير الفراشة" على سير العملية الانتخابية وتكرار سيناريو عام 2016، حيث أدت إشارة لاحتمالات تدخل روسية في التأثير على الميول التصويتية لبعض الناخبين، إلى تصدع مروع في جنبات نزاهة الانتخابات الأمريكية. ويقصد بنظرية "تأثير الفراشة" أو كما يسميها البعض "نظرية الفوضى" الإشارة إلى أن حدثا بسيطا وصغيرا ربما يؤدي إلى نتائج وآثار كبيرة لاحقا.
- إشكالية الدين والانتخابات.. تشريح "الصوت اليهودي" في سباق البيت الأبيض
- هل ينجح مدير حملة ترامب في استنساخ مشهد 2016؟
وفي خضم تلك التحديات التي تموج بها البيئة الانتخابية الأمريكية، ما زال يلوح في الأفق وبشدة خطر التدخل الأجنبي في موسم الحملات الانتخابية، مستدعيًا سابقة التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2016. وفي حين تم توجيه اللوم لصناع القرار وقادة الأجهزة الاستخباراتية لعدم نشر المعلومات الخاصة بتلك الأنشطة التي تهدف إلى التأثير على الانتخابات الرئاسية علنًا، فإن مركز الأمن الأمريكي الجديد يتناول من خلال دراسته الصادرة بعنوان "الشفافية الاستخباراتية والتهديدات الأجنبية للانتخابات" أعدها "كاري كورديرو"، وعرضها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، الطرح الخاص بشأن إمكانيات استباق الأحداث وضرورة تفعيل الشفافية من جانب الأجهزة الاستخباراتية في توعية الرأي العام الأمريكي، وإحداث التوافق بين مجتمع الاستخبارات وصناع القرار والجمهور فيما يتعلق بتوقعات الشفافية حول التهديدات الخارجية للانتخابات الأمريكية القادمة.
كيفية التعامل مع التأثير الأجنبي
وتشير الدراسة إلى أن التهديدات الخارجية للعملية الانتخابية فرضت الحاجة إلى إرساء المزيد من الشفافية بين مجتمع الاستخبارات والمواطنين، وهي القضية التي أثارت حالة شديدة من الجدل، حيث انقسمت معه الآراء إلى اتجاهين أساسيين، وذلك على النحو التالي:
الاتجاه الأول: يدعم الشفافية الاستخباراتية في التعامل مع المواطنين، وذلك وفقًا لنظرية "الواجب التحذيري"، حيث إنه في إطار سياسات وإجراءات محددة، يتعين على الجهات المعنية الإفصاح عن المعلومات التي يكشف فيها جمع المعلومات الاستخباراتية عن وجود تهديد معين، قد يتسبب في إلحاق الأذى بالأشخاص أو الأمن القومي للدولة.
وفي عام 2018، اعتمدت وزارة العدل الأمريكية سياسة جديدة، تتضمن "الإفصاح عن عمليات التأثير الأجنبي"، والتي تتضمن بندًا يتعلق بالإخطار العام، عندما "تفوق المصالح الفيدرالية أو الوطنية في الإفصاح العام أي اعتبارات تعويضية". ويستند مؤيدو هذا الاتجاه إلى ضرورة زيادة التواصل المباشر بين مجتمع الاستخبارات والجمهور باعتباره أحد أجهزة الدولة، والذي لا يختلف عن أي كيان حكومي فيدرالي آخر يؤدي دوره في حماية الأمن القومي الأمريكي، ويتم تمويله من قبل دافعي الضرائب الأمريكيين، وبالتالي فهو مسؤول أمام الجمهور في إطار من المسؤولية المشتركة بين المواطنين والحكومة.
أما الاتجاه الآخر المضاد لذلك التواصل المباشر بين مجتمع الاستخبارات والمواطنين: فيرى أن مجتمع الاستخبارات يعد مسؤولًا فقط أمام صانعي السياسات، الذين بدورهم يعدون المخولين بالتواصل المباشر مع المواطنين.
أزمة الشفافية
على الجانب الآخر، أوضحت الدراسة أن هناك العديد من المخاطر التي قد تترتب على زيادة الشفافية من جانب مجتمع الاستخبارات، لا سيما بشأن التهديدات الخارجية للعملية الانتخابية، والتي قد تشمل:
- قد يتبين أن التقديرات الاستخباراتية غير دقيقة تمامًا، الأمر الذي ستكون له عواقب وخيمة قد تصل إلى حد إشعال الحروب. كما أنه يؤدي إلى تآكل الثقة المجتمعية في الأجهزة الاستخباراتية.
- إرسال الرسائل التحذيرية للدول الأجنبية التي تسعى للتدخل في العملية الانتخابية، بأنه تم الكشف عن وسائلها، وهو ما يتيح لها اللجوء لوسائل أخرى قد يستغرق الأمر المزيد من الوقت في الكشف عنها.
- قد لا يكون لدى الجمهور ثقة في أن المعلومات يتم نقلها دون مغالاة سياسية، ويمكن في هذه الحالة تفسير الإفصاح على أنه يأتي مدفوعًا برغبة سياسية في توجيه الناخبين، وبالتالي تقليل الثقة في نتيجة الانتخابات.
- قد يؤدي الإفصاح عن المعلومات الاستخباراتية إلى تقويض الثقة في العملية الانتخابية برمتها، خاصة إذا كشفت عن تفضيل قوة أجنبية لمرشح على حساب آخر.
وتتبعت الدراسة التطور الحادث في تفاعل مجتمع الاستخبارات مع المواطنين في الكشف والتحذير بشأن أنشطة التدخل الأجنبي في العمليات الانتخابية. ففي حين، عُدت الإدارة الأمريكية بطيئة في فهم نطاق وآليات أنشطة التدخل الروسي عام 2016، والتي تم الكشف لاحقًا أن بداية تلك الأنشطة تعود لعام 2014. فإن الأمر قد استغرق حوالي عامين من التحقيقات، بعد تعاون مكثف من الحزبين من خلال لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ.
لكن ذلك النهج قد تغير حيث أصبحت الأجهزة الاستخباراتية أكثر حرصًا على تتبع أي أنشطة أجنبية للتأثير على الانتخابات الأمريكية والعملية الديمقراطية بأكملها. ففي أكتوبر 2018، قدمت مجموعة من الوكالات الفيدرالية بيانًا مشتركًا يحذر من "الحملات المستمرة من قبل روسيا والصين والجهات الأجنبية الفاعلة الأخرى، بما في ذلك إيران، لتقويض الثقة في المؤسسات الديمقراطية، والتأثير على المشاعر العامة والسياسات الحكومية" من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والحملات الدعائية، وذلك قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي. أعقب ذلك بيان آخر مشترك من الوكالات نفسها في 5 نوفمبر 2018، تم توجيهه مباشرة للناخبين الأمريكيين بضرورة إدراك أن الجهات الأجنبية -وبصفة خاصة روسيا- تواصل محاولة التأثير على التوجهات العامة للناخبين، وافتعال الأحداث التي تهدف إلى إحداث الانقسام داخل المجتمع الأمريكي.
واستمرارًا لنهج الشفافية، ومع اقتراب الحملات الانتخابية للرئاسة الأمريكية 2020، أبلغت الوكالات ذات الصلة بحالة التهديدات الأجنبية للانتخابات علنًا. ففي نوفمبر 2019، أصدرت وزارة الأمن الداخلي بيانًا مشتركًا من سبع إدارات ووكالات تؤكد أن الحكومة الفيدرالية أعطت الأولوية للأمن الانتخابي. وأكد البيان أن "روسيا والصين وإيران والجهات الأجنبية الأخرى ستسعى جميعًا للتدخل في عملية التصويت أو التأثير على توجهات الناخبين" من خلال "حملات وسائل التواصل الاجتماعي أو عمليات التضليل المعلوماتي أو تنفيذ الهجمات السيبرانية التخريبية". كما تم إصدار بيان مماثل بشكل مشترك قبل الانتخابات التمهيدية للثلاثاء الكبير في مارس 2020.
ماذا سيحدث في انتخابات ٢٠٢٠؟
قدمت الدراسة مجموعة من التوصيات التي يمكن تبنيها من قبل كل من مجمع الاستخبارات والكونجرس لتفعيل حالة الشفافية، فيما يتعلق بالتهديدات الخارجية المحتملة للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020، وذلك على النحو التالي:
- استمرار التعاون الاستخباراتي في الداخل والخارج: حيث إن حماية العملية الانتخابية من التهديدات الخارجية وضمان نزاهتها، يقتضي التعاون مع شركاء الاستخبارات الدوليين لتحديد وتقييم وتعطيل تلك الأنشطة الأجنبية التي تستهدف التدخل في العملية الانتخابية وقلب موازين الأمور لصالحها.
- اتباع القواعد الإجرائية في عمليات الإفصاح: وذلك درءًا لشكوك تسييس العمليات الاستخباراتية، حيث إنه قد يكون من الضروري على مجتمع الاستخبارات الالتزام بإبلاغ صانعي السياسات في الأجهزة التنفيذية، ثم لجان الاستخبارات في الكونجرس. وكذلك مراعاة المساواة الحزبية في توفير الإحاطات الإعلامية.
- التوجه نحو الإفصاح العلني مع حماية مصادر الحصول على المعلومات: حيث إنه بمجرد إطْلاع صناع السياسات على الإحاطات المهمة بشأن أنشطة التدخل الأجنبي، وفي حالة حدوث توافق بين كل من رؤساء مجتمع الاستخبارات الذين يتمتعون بالخبرة في هذا السياق؛ تقترح الدراسة أنه قد يكون من الملائم قيام مدير الاستخبارات الوطنية برفع السرية عن تلك المعلومات والإفصاح عنها علنًا، في ظل توفير أعلى درجات الحماية لمصادر المعلومات وأساليب الحصول عليها، مع الحرص على إشراك المسؤولين في الأجهزة التنفيذية، والشخصيات العامة ذات المصداقية في التواصل المباشر مع المواطنين عبر كافة الوسائل الإعلامية، وذلك لضمان وصول المعلومات الدقيقة وفي الوقت المناسب إلى الجمهور. بما يشكل آلية حاسمة في تشكيل الوعي الوطني، والحد من تداعيات أنشطة التدخل الأجنبي في العملية الانتخابية.
وختامًا، يمكن القول إن الوضع الراهن لبيئة إجراء الانتخابات الرئاسية القادمة في الولايات المتحدة الأمريكية، لا يحتمل السماح بالمزيد من التدخلات الأجنبية في العملية الانتخابية، أو الانتظار للإعلان عن تلك التدخلات بعد حدوثها بفترة تقترب من أربع سنوات من خلال مجلدات مُنقحة تشرح كيف أثرت التدخلات الأجنبية على نتيجة انتخابات 2020.