فهم الحالتين الأمريكية والبريطانية ضروري في هذه المرحلة التي تتجمع فيها الغيوم في المنطقة للوضع في الاعتبار ساعة اتخاذ القرارات الكبرى
يقول المثل الصيني: "اجعل أصدقاءك قريبين منك، واجعل أعداءك أكثر قربا؟!" في الحالتين، الصداقة والعداء، حسب الحكمة الصينية، فإن الفهم والمعرفة مطلوبين حتى يكون حسن التصرف ووضع الاستراتيجيات ممكنا.
هذه الأفكار ليست مجرد أفكار أكاديمية وإنما هي عاكسة لاتجاه داخل المجتمع الأمريكي، والإدارة الأمريكية التي عبرت عن الأمر صراحة عندما قرر الرئيس دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية من المنطقة بادئا بسوريا، وملمحا في اتجاه أفغانستان والعراق، ولكن الواقع في المنطقة وتعقيداته عوق هذا الانسحاب
في عالمنا العربي هناك إشكالية في التعامل مع كلاهما، فحالات الصداقة كثيرا ما تتحول إلى حالة من الحب العميق، وأوصافها تتراوح ما بين "الصديق" و"الشقيق"؛ وجرت العادة في المجالس العربية أن يكون الحديث عن "الوطن الثاني" للدلالة على حميمية العلاقة، وجرت المبالغة ذات زيارة إلى "اليمن الشقيق" عام ١٩٨٩ في غمار ندوة عقدها "مركز دراسات الوحدة العربية" أن عبر أحد الأشقاء عن سعادته بالوجود في وطن العرب "الأول" أخذا في الاعتبار أن أصول العرب جاءت من اليمن.
الحقيقة أننا لم نعرف عن الوطن "الأول" الكثير، وكم كان مدهشا فيما بعد عندما دخل في حروب وأزمات من أجل الانفصال ومن أجل الوحدة أيضا، ولم يكن ذلك قاصرا على اليمن وحده بل على كثير من الدول العربية الشقيقة؛ فما الذي نعلمه الآن عن السودان، ولماذا تجد جماعة الحرية والتغيير صعوبة شديدة في التفاهم مع المجلس العسكري؟ العداء على الجانب الآخر كان يعني مقاطعة المعرفة عن العدو؛ وبعد حرب يونيو/حزيران ١٩٦٧ اكتشفنا في مصر، وفي العالم العربي أننا لا نعلم الكثير عن إسرائيل، وحتى عام ١٩٧٠ فإنه لم يكن هناك فصلا دراسيا واحدا عن الدولة العبرية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، سرعان ما تعلمنا الدرس، وقامت منظمة التحرير الفلسطينية بإنشاء مركز الدراسات الفلسطينية الذي كان مهتما بدراسة فلسطين وإسرائيل أيضا، وفي القاهرة أقامت مؤسسة الأهرام مركزا للدراسات الفلسطينية والصهيونية عام ١٩٦٨، صار فيما بعد مركزا للدراسات السياسية والاستراتيجية عام ١٩٧٢.
تعلمنا الدرس فيما بعد، وفي أعقاب حرب الخليج لتحرير الكويت زاد الاهتمام بفهم الولايات المتحدة، وجرى إنشاء المؤسسات التي تقوم بهذه المهمة ليس فقط في عواصم عربية متعددة، وإنما في واشنطن أيضا.
لماذا يطرح هذا الموضوع الآن؟ الثابت أن منطقة الخليج تمر الآن بمرحلة صعبة نتيجة السلوكيات الإيرانية العدوانية التي تشعبت في أكثر من بلد عربي (العراق وسوريا ولبنان واليمن) من ناحية عبر جماعات داخلية، وممارسات عدوانية مباشرة أو بالوكالة الحوثية على دول عربية خليجية.
في مواجهة ذلك طرحت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تكوين تحالف عسكري بحري لحماية الملاحة في الخليج والبحر الأحمر، والمحافظة على أمن المضايق (هرمز وباب المندب)، وضمان تدفق النفط من المنطقة إلى العالم. العلاقة بين التحالفين ليست واضحة حتى الآن، ولا يمكن التنبؤ بشكلها ما لم يكن هناك المزيد من المعرفة بأحوال واشنطن ولندن، وخاصة تلك السياسة والكيفية اللتي تنظر بهما إلى منطقتنا.
وربما يقربنا من فهم ما يحدث في الأولى مقال نشره "جورج ساي" في صحيفة "ذي ناشونال إنترست The National Interest" بعنوان "أمريكا لم تعد تحتاج الشرق الأوسط" في ١٨ يوليو/تموز الجاري، الحجة الأساسية للمقال ذائعة بين المفكرين والساسة الأمريكيين، تقول إن علاقة الولايات المتحدة بالشرق الأوسط قامت على مصلحتين: النفط وأمن إسرائيل.
ولما كانت الولايات المتحدة قد اكتفت ذاتيا الآن من النفط، وباتت تفي بكل احتياجاتها بسبب ما اكتشفته من "النفط الصخري" على أراضيها فإنها لم تعد في حاجة إلى نفط الشرق الأوسط أو الخليج. والحقيقة –كما يجري هذا المنطق– أن هناك دولا أخرى مثل اليابان والهند والصين أكثر احتياجا لهذا النفط من أمريكا، وآن أوان أن تقوم بالدفاع عنه.
بالنسبة لإسرائيل فإنها حاليا دولة أولا غنية، ارتفع متوسط نصيب الفرد فيها من الدخل المحلي الإجمالي من ٧ آلاف دولار عام ١٩٨٥ إلى ٤١ ألف دولار الآن، وهي كذلك مستقلة نفطيا بعد الاكتشافات التي تمت في حقلي تمارا وليفياثان، وعسكريا فهي دولة نووية، وباختصار فإن إسرائيل تحولت من دولة "اشتراكية وزراعية" إلى مجتمع رأسمالي متقدم تكنولوجيا وصناعيا قادرا على الدفاع عن نفسه تجاه القدرات العدوانية الإيرانية.
هذه الأفكار ليست مجرد أفكار أكاديمية، وإنما هي عاكسة لاتجاه داخل المجتمع الأمريكي، والإدارة الأمريكية التي عبرت عن الأمر صراحة عندما قرر الرئيس دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية من المنطقة بادئا بسوريا، وملمحا في اتجاه أفغانستان والعراق، ولكن الواقع في المنطقة وتعقيداته عوق هذا الانسحاب، وأكثر من ذلك خلق حالة عكسية لمزيد من الوجود العسكري البحري في المنطقة.
صار المعبر ما بين الأفكار والواقع يتم عن طريق دبلوماسية معقدة للسعي لخلق جسور مع إيران من ناحية، ودعوة دول المنطقة إلى دفع تكاليف القوات الأمريكية. المعضلة العربية في كل ذلك أن الولايات المتحدة لم تكن أبدا شديدة الاعتماد على النفط العربي، فهي من ناحية دولة منتجة للنفط منذ زمن بعيد، وكذلك فإنها عندما بدأت الاستيراد كانت تستورد من السوق النفطية العالمية، وفي المقدمة منها فنزويلا ودول أخرى، ولم يحدث في أي وقت من الأوقات أن كان الاستيراد الأمريكي من المنطقة يزيد على ١٢٪ من احتياجاتها، وهي نسبة قلت تدريجيا مع تزايد الاحتياطي الأمريكي، واكتشاف النفط الصخري.
أما إسرائيل فلم تكن في معظم تاريخها تحت التهديد، بل هي التي وضعت دولا كثيرة في المنطقة تحت التهديد، سواء كان ذلك بالأسلحة التقليدية أو بأسلحة التدمير الشامل.
أمريكا كانت في المنطقة لأنها دولة عظمى دخلت المنافسة العالمية في مواجهة الاتحاد السوفيتي في الماضي، وكل من روسيا والصين في الحاضر.
المملكة المتحدة دخلت منذ عام ٢٠١٦ مع استفتاء "البريكسيت" في مسار له ثلاثة أوجه: أولها التحول نحو اليمين، وهو ليس اليمين المحافظ الذي يعبر عنه حزب المحافظين، وإنما استجابة للموجة اليمينية المتشددة في أوروبا وشمال أمريكا التي مثلها دونالد ترامب.
وثانيها أن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي خلق سابقة، وزرع بذورا تشجع على تغيير الخريطة الأوروبية من التوجه إلى التكامل، والوحدة إلى التوجه في الاتجاه المعاكس: التفكك.
وثالثها العودة مرة أخرى إلى ما كان في الخمسينيات من القرن الماضي عندما كان هناك صراعا داخل المملكة المتحدة بين التوجه الأوروبي والتوجه الأطلنطي، وفي اللحظة الراهنة فإن التوجه الأطلنطي فاز مع اختيار "بوريس جونسون" زعيما لحزب المحافظين، ورئيسا للوزراء.
ورابعها أن هذا التوجه الجديد/ القديم يضع الاتحاد البريطاني ذاته موضع اختبار شديد؛ فالاستفتاء الذي أدى إلى "البريكسيت" وافق عليه أقل قليلا من ٥٢٪ من الشعب البريطاني، بينما وافق عليه أكثر قليلا من ٤٨٪، وهؤلاء لم يكونوا منتشرين في أنحاء المملكة، وإنما كان لهم تركيز في "اسكوتلندا" و"شمال أيرلندا" و"لندن" أي خليط من نخبة المال والثقافة البريطانية مع إقليمين لهما تاريخ في الاستقلال عن المملكة.
وصول بوريس جونسون إلى مقعد القيادة يفتح الباب لكثير من التوقعات المجهولة، والتوجس المؤكد؛ فالرجل يمثل النسخة البريطانية من دونالد ترامب؛ وهذا الأخير لعب دورا هاما في انقسام الشعب الأمريكي وتوغل الاستقطاب فيه.
ومن ناحية أخرى، فإن الرجل لم يكن فقط محركا ومؤيدا لعملية الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وإنما كان من المعترضين على كل أنواع "الخروج الناعم" من الاتحاد. النتيجة أنه في ٣١ أكتوبر/تشرين الأول القادم سوف تخرج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي؛ والمرجح أن ذلك سوف يقسم بريطانيا ويدفعها في اتجاه انتخابات جديدة يكون التصويت فيها على الحزب الحاكم، وعما إذا كان ضروريا عقد استفتاء جديد على الخروج من الاتحاد الأوروبي أم لا؟
فهم الحالتين الأمريكية والبريطانية ضروري في هذه المرحلة التي تتجمع فيها الغيوم في المنطقة للوضع في الاعتبار ساعة اتخاذ القرارات الكبرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة