سامي السيفي.. "بوعزيزي" إخوان تونس
انتفض التونسي محمد البوعزيزي في 2010 احتجاجا على مصادرة عربته وبعد سنوات ينتفض سامي السيفي على طريقته استنكارا لسرقة سنوات عمره.
اختلفت الأسماء والسياقات، لكن جمعهما التاريخ، الأول أحرق نفسه فأسقط نظاما، والثاني "أحرق نفسه"، فأسقط حزبا، وما بين الحادثتين تفاصيل تصنع خصوصية كل مشهد.
ففي ديسمبر/ كانون أول 2010، أضرم الشاب محمد البوعزيزي النار في جسده احتجاجا على مصادرة الأمن لعربة كان يبيع عليها الخضر والفواكه لكسب رزقه، في حادثة أطاحت حينها بالنظام السابق عقب احتجاجات دامية شكلت منعطفا بالتاريخ المعاصر للبلاد، ورسمت مشهدا مغايرا في جميع تجلياته، قاد من ضمن أمور أخرى، الإخوان إلى السلطة.
وبعد 11 عاما، وفي نفس التاريخ تقريبا، يتكرر المشهد لكن هذه المرة في عقر دار التنظيم الذي أنهكته سنوات حكم أظهر فيها عجزه عن إدارة الدولة والحزب أيضا.
حادثة لا يزال الغموض يلفها بانتطار ما ستسفر عنه التحقيقات، حيث أظهر مقطع فيديو النيران وهي تلتهم جسد رجل بالمقر المركزي للإخوان في العاصمة تونس، قبل أن تمتد ألسنة اللهب لتجتاح الطابق السفلي وتتسبب بإصابات متفاوتة بصفوف الموجودين من قيادات الحركة وموظفيها.
انتصرت النيران على الرجل ووضعت حدا لسنواته الخمسين، لكن لهيبها طال - تماما كما البوعزيزي- الإخوان وزعيمهم، فدق المسمار الأخير بنعش التنظيم المتهالك وكتب له تذكرة خروج غير آمن من الحزب والسلطة.
فمن هو سامي السيفي؛ الكهل الذي يبدو أنه اكتشف متأخرا أن سنوات عمره التي منحها ثمنا لما اعتقد أنه "نضال" من أجل فكر الإخوان، لم تكن سوى كذبة.
في ما يلي، ترصد "العين الإخبارية" أهم المحطات في حياة الرجل، استنادا إلى مصادر مقربة منه ومعاصرين له:
مسار
لم يكن في حياة السيفي ما يمكن الوقوف عنده قبل مرحلة دخوله "المعهد الفني" بتونس العاصمة، فلقد كان تلميذا عاديا يتابع دراسته كغيره من أقرانه قبل أن يسقط فريسة لفكر متطرف راج حينها بصفوف عدد من الطلاب.
كانت حركة النهضة تسمى حينها "الاتجاه الإسلامي"، وكانت محظورة وفي أوج صراعها مع النظام، وكانت تعمل على تجنيد التلاميذ والطلبة لحشد صفوفها، وكان السيفي من بين ضحاياها.
بعد صعود الرئيس الراحل زين العابدين بن علي إلى الحكم في عام 1987، عقد صفقة مع زعيم الإخوان راشد الغنوشي، وطالبه بقائمة قيادات وأعضاء حركته مقابل "رأسه"، وحينها كان الغنوشي مسجونا من قبل الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، والذي أمر بإعدامه في آخر سنوات حكمه.
نجا الغنوشي من الإعدام، لكن ثمن حريته كان تقديم أسماء حركته قربانا لذلك، وهو ما قبل به راضيا، حيث غادر البلاد مخلفا رفاقه في الزنازين، من بينهم السيفي.
مقربون من السيفي ممن عاصروه زمن السجن في تسعينيات القرن الماضي، قالوا إنه سجن في البداية على خلفية اتهامه في تفجير إرهابي العام 1991، ثم برأه القضاء، لكنه عاد إلى السجن بتهمة إحراق المعهد الفني، حيث قضى عقوبة بـ15 عاما.
قهر وغبن
بعد 2011، كان السيفي يعمل في شركة للأدوية وكان وضعه المادي جيدا نوعا ما، لكن وفي خضم التقلبات التي شهدتها تونس في تلك الفترة، جرى تسريحه "تعسفيا" كما يقول مقربون منه، فساء وضعه المادي، وطلب من قيادات بحركة النهضة مساعدته للعودة إلى عمله لكن جميع مساعيه باءت بالفشل، كما لم ينجح في العثور على عمل آخر.
عانى السيفي البطالة عقب تسريحه، ومع تعاقب الأيام، باتت معاناته تتفاقم دون أن يجد مساعدة من "رفاق النضال" أو من الحركة التي منحها سنوات شبابه معتقدا أنه يدافع عن فكرة، وبدأ اليأس يتسلل إلى قلبه.
في النهاية، وأمام تدهور وضعه الاجتماعي والنفسي، قامت النهضة بتشغيله حارسا لمقرها المركزي في منطقة "مونبليزير" بالعاصمة، لكن الوظيفة أورثته شعورا بـ"الغبن" كما يقول مقربون منه، حيث كان من الصعب عليه أن يرى رفاق الأمس وهم يستقلون السيارات الفاخرة ويتقلدون مناصب سامية، بينما ينتظر هو عند البوابة لتنظيفها.
كان تنظيف سيارات رفاق الأمس يثير في نفسه شعورا سيئا عجز عن احتوائه بمرور الوقت، وكان يرغب في أن تساعده الحركة على العثور على عمل أفضل، وحين "سقط" من حساباتها، تملكه إحساس بالقهر من الدولة ومن الحزب الذي كان في الحكم وعجز عن تسوية وضعية "أحد مناضليه".
والسيفي أب لثلاثة أبناء"، وبحسب تدويناته عبر موقع التواصل، بدا من الواضح أنه كان يشعر مؤخرا بـ"ضيق وظلم كبيرين"، وأسر لبعض أصدقائه بأنه "كان يحلم بمشروع بسيط في مجال بيع الملابس المستعملة ليعيل عائلته".
ووفق الشهادات نفسها، فإنه رغم أن السيفي كان يهدد بوضع حد لحياته، إلا أنه كان من المستحيل أن يفعل ذلك، مؤكدين أنه رغم حالة الفراغ الناجمة عن "البطالة والقهر والمغالطات التي تحبك حول المساجين السياسيين"، إلا أنه كان متمسكا بحياته.
وإجمالا، عاش السيفي حالة من الصدمة حيث كان يرفض أن يكون حارسا لأنه يعتبر نفسه "ناضل كثيرا وقضى شبابه في السجن"، وبالتالي فإن ما حصل كان مفاجئا بالنسبة له، وقد يكون ذلك ما دفعه لطلب لقاء الغنوشي في أكثر مرة، وكان طلبه يواجه بالرفض قبل أن يحصل أخيرا على موعد، ولم يكن يعلم أنه على موعد مع الموت.
قهر كتب نهاية أليمة لرجل اعتقد أنه قدم سنوات عمره دفاعا عن فكرة، لكنه اكتشف مؤخرا أن تضحياته لم تكن سوى رقم زهيد بمزاد إخواني كبير.