تبدو الأزمة التي تمر بها تونس على مستوى قطبي الحكم؛ الرئيس ورئيس الحكومة.
وكأنها تَنازعٌ على الصلاحيات الدستورية، أو هذا ما سعت إلى تظهيره بعض الأطراف لتبدو المشكلة في سياق دستوري، وإبعاد شبهة دور بعض التيارات السياسية في افتعالها أو في الدفع نحو اختلاقها وتأزيمها أكثر حتى لو اقتضت مصالحها إدخال البلاد والعباد في أتون صراع داخلي تعتقد أن فوزها بمخرجاته سيصب في خدمة مشروعها وأهدافها.
في الممارسة الديمقراطية يحدث أن تظهر تناقضات وجدالات وسجالات بين أقطاب أي سلطة بحكم التنافس والصراع والتباين في منطلقات وسياقات كل تيار وطريقة إدارته للمؤسسات التي يقوم عليها، خاصة إذا كان الفيصل بين صلاحيات كل سلطة هو الدستور الذي يخضع الجميع له، ويشكل مرجعية واحدة لمختلف القوى بصرف النظر عن أيديولوجياتها وبرامجها وأهدافها.
التجربة التونسية الوليدة تتعرض لاهتزازات متكررة منذ إطلالة حزب النهضة الإخواني على المشهد مدججاً بأيديولوجية لا تخرج عن عباءة التيار العام لتنظيم الإخوان، قائمة على الوصول إلى السلطة بأي طريقة كانت، انسجاماً مع مبادئ التنظيم الدولي الذي لا يعترف بالحدود الوطنية للبلد الذي يستهدفه بأجندته، ولا يكترث بمآلات وتبعات نهجه الهدام عليه.
الرئيس التونسي تحفّظ على عدد من الوزراء الذين اختارهم رئيس الحكومة بدلاً من وزراء آخرين، مبرراً تحفظه بوجود ملاحظات على بعضهم، ورئيس الوزراء يدافع عن خياراته بما لديه من صلاحية وبراهين؛ هكذا يبدو الأمر فصلاً من فصول اللعبة الديمقراطية.
التقطت حركة النهضة ذات الكتلة البرلمانية الوازنة هذا التجاذب لتتسلل إلى ما وراء الكواليس وتغذي التباين بين قطبي الحكم لأهداف لا تقتصر على تأجيج الصراع بين مؤسستي السلطة الرئاسية والحكومية والإيحاء بوجود تناقض فحسب، بل لأنها تسعى لتحقيق عدة مكاسب؛ أولها صرف النظر عن المشكلات الداخلية التي تمر بها سواء على صعيد الاتهامات الموجهة لها من قبل تيارات وقوى تونسية حزبية وبرلمانية بالوقوف بطريقة ما خلف عمليات اغتيال عدد من قادة الأحزاب، والنقابيين التونسيين الذين يناهضون فكرها، أو على صعيد الأزمة الداخلية التي تعصف بها بسبب الصراع على رئاسة الحركة، حيث تنامى بعد بروز انقسامات في صفوف النهضة ومطالبة غالبية أعضائها برحيل الغنوشي عن رأسها وعن رئاسة مجلس نواب الشعب بعد تمنعه ورفضه الكشف عن مصادر ثروته الشخصية الهائلة والتي تصل، وفقاً لمصادر تونسية، إلى ما يقارب نصف ميزانية تونس السنوية المقدرة بنحو سبعة عشر مليار دولار أمريكي.
مجمل الهزات التي مرت بها الساحة التونسية منذ عشر سنوات، كانت لحركة النهضة يد واضحة فيها، تلجأ حيناً إلى المراوغة والمواربة، وتقتنص أحياناً كثيرة تناقضات أطراف أخرى منافسة لها، وتبني عليها لتعميق تناقضاتها وتنافرها، وصولاً إلى أهدافها الأهم بالنسبة لمشروعها الرامي إلى الانقضاض على السلطة وحيازتها بأي وسيلة كانت، وهي في هذا السبيل تلجأ إلى التلويح في وجه أعضائها بمخاطر التحديات الوجودية التي تواجهها والتي تتطلب التماسك والتضامن ككتلة حزبية وسياسية وبرلمانية كي تستمر بالسير نحو أهدافها للهيمنة السياسية واقتناص السلطة بعد أن تتمكن من إضعاف خصومها السياسيين والحزبيين وتشتيت وحدتهم. ما حدث في ذلك الهزيع الأخير من ليلة التصويت على الوزراء الجدد الذين قدم أسماءهم رئيسُ الوزراء إلى البرلمان بدلاً لمن أقالهم؛ كان ترجمةً دقيقة لفلسفة النهضة، توحد صوت أعضاء نوابها لتزكيتهم رغم علمهم التام بما يدور حول الوزراء المرشحين من ملاحظات وشبهات لم يتم البت فيها بعد، لكن فرصتهم لضرب التوافق المحتمل بين الرئيس ورئيس الحكومة سنحت ولا بد من اقتناصها من قبلهم والدفع بالأزمة بين قطبي الحكم نحو التأزيم أكثر، وحرف أنظار الرأي العام في البلاد عن معاناته المعيشية والاقتصادية والتنموية وعن صراعات الحركة وأزماتها المتعددة ورمي الكرة بعيداً عن ملاعبها.
لن تتردد حركة النهضة، بوحي أيديولوجيتها، وبحكم واقعها المتأزم حاليا، في المضي قدماً نحو خلط الأوراق الداخلية لكي تحافظ على تماسكها الشكلي على الأقل، ذلك أن استقرار الوضع السياسي والتوافقات بين الكتل والأحزاب والقوى الوطنية يعني استقراراً للمشهد العام، وبالتالي مواجهة المطالب المعيشية والتنموية والاقتصادية للناس الذين سيتفرغون بدورهم للضغط من أجل رفع الغطاء عن قضايا الفساد ومن يقف وراءها. حين تتناغم الرئاستان؛ الجمهورية والحكومية، في إدارة شؤون البلاد، فمن شأن ذلك التناغم تعرية الادعاءات التي دأبت كتلة النهضة البرلمانية ومن خلفها حاضنتها الحركية ومزاعمها بأنها هي من يمثل حامل الاستقرار الداخلي، وهي من يسعى لمعالجة احتياجات الناس وتخفيف وطأة المعاناة الاقتصادية التي يرزحون تحتها بفعل عوامل داخلية وخارجية منها تبعات كورونا، تناغم لا يروق لها ولرعاتها.
تكشفت حقائق ناصعة أمام المجتمع التونسي تؤكد انغماس عدد من قادة الحركة بالفساد والاستثمار فيه لضرب الاستقرار الداخلي من جهة، وتعطيل عملية الانتقال التدريجي التي يتطلع التونسيون إلى تحققها على المستويات السياسية والاقتصادية والديمقراطية من جهة أخرى .
الترقب عنوان المرحلة في تونس. المخاض بلا شك عسير، قطع الطريق على مناورات النهضة الإخوانية أهم السبل لتجاوز الأزمة الراهنة ببعدها الدستوري، وبعدها الوطني العام، وهو الأخطر .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة