تشتعل القضية الكردية في العراق التهاباً يوماً بعد آخر، منذ عودة الزعيم الكردي الراحل الملا مصطفى البرزاني من منفاه الروسي إلى العراق.
حيث فضّل جبال كردستان على ثلوج موسكو.
ولا تزال الموازنة المخصصة للأكراد من الملفات المعقدة التي تنذر بمواجهة بين بغداد وأربيل على الدوام، وهي بذرة لإنتاج المشاكل تلو الأخرى، وأبرزها عدم الاستقرار الذي يعرفه العراق. والعلة في هذا التوتر بين الأكراد والحكومة العراقية ليس مردها الموازنة المالية وتخصيصات الأكراد، بل تمتد جذور التوتر إلى الدستور الذي تعامل مع الحكم بعقلية الغنيمة، حتى إن أطراف العملية السياسية اجتمعت على توزيع "التركة" إثر انهيار أركان الدولة العراقية التي تأسست في 1921. وما دعم ذلك هو قانون المكونات الذي لم يكن العراقيون يعرفونه من قبل. وهذا ما جعل فكرة انفصال الأقاليم تظهر بين الحين والآخر إثر الأزمات التي تعصف بالعراق، حتى إن البصرة، المحافظة الجنوبية التي تزخر بإنتاج ثلاثة أرباع الثروة النفطية، فكر بعض قادتها في تشكيل إقليم خاص بالبصرة، على غرار إقليم كردستان في الشمال، لأن مواردها النفطية تذهب إلى جيوب الحكومة المركزية، من دون أن تسهم في بناء البنية التحتية وتحسين المعيشة.
إن ولادة مفهوم الحكومة الاتحادية جعلت إقليم كردستان يستثمر النفط، ويسدد للشركات المنتجة، ومع ارتفاع أسعار النفط، صار إقليم كردستان يصدر النفط من دون الرجوع إلى الحكومة المركزية في بغداد. لكن هبوط أسعاره أدى إلى عجز الإقليم عن تسديد رواتب موظفيه أو دفع مستحقات الشركات المنتجة. وهذا ما جعله يعود إلى التفاوض مع بغداد حول الموازنة لهذا العام. مستحقات الأكراد 17% من الموازنة المالية التي قررها الدستور، ولا يزال النزاع قائماً حول هذه النسبة. وقد أدت التطورات الأخيرة إلى عدم قدرة إقليم كردستان على الانفصال عن حكومة بغداد، لأن آبار نفط كركوك أصبحت تحت سيطرة بغداد بعد عام 2017.
مع العودة إلى ملف الموازنة المُعقد بين بغداد وأربيل، يعيش إقليم كردستان على وقع الضربات الجوية الأمريكية، حيث أصبح هدفا استراتيجيا في ضرب "البنية التحتية التي تستخدمها المليشيات المدعومة من إيران في شرق سوريا"، وهي محاذية للحدود العراقية وإقليم كردستان، ما أدى إلى زعزعة الأمن فيه، وبات حاجته إلى التغطية الأمنية والسياسية والعسكرية التي كانت الولايات المتحدة تتولاها، ولكنها ضعفت في الفترة الأخيرة. ولا تزال الفصائل الإرهابية في الإقليم هي السبب في ذلك، وآخرها محاولة اغتيال النائب في البرلمان العراقي غالب محمد بطعنة سكين في السليمانية.
وفي المقابل، فإن صواريخ الإرهابيين وصلت إلى القاعدة الأمريكية بالقرب من مطار أربيل، ما جعل الأخيرة تتخوف من الصراع الأمريكي الإيراني، ودخولها كعنصر ضعيف في هذا الصراع الإقليمي، ما يُنذر بنتائج وخيمة، إضافة إلى تعقيد ملف تخصيصات الحكومة المركزية للإقليم. كل هذه التطورات جعلت الإقليم يقترب من الحكومة المركزية العراقية بعد أن وجد نفسه بلا دعم دولي، رغم تعليق ملف الموازنة الذي يزيد الطين بلة بين الطرفين منذ (25 فبراير)، حيث تم تأجيل التصويت على موازنة 2021 بسبب حصة إقليم كردستان، وهذا ما يسبب ضررا كبيرا في القطاع الاقتصادي، ويسهم في تأخير دفع رواتب المتقاعدين وغيرهم.
كان الأكراد يحلمون بوصول بايدن إلى الحكم، معتقدين أنه سيكون الحل بفضل تعاطفه مع القضية الكردية، إلا أنهم لم يدركوا أن بايدن هو حلقة في سلسلة حلقات تشكل آلية الحكم في الولايات المتحدة. واتضح فيما بعد أن العراق برمته وليس الإقليم فقط، أصبح في آخر أولويات الرئيس بايدن، الذي لم يتطرق له في خطاباته، ومرد ذلك صواريخ كاتيوشا المليشيات التي استهدفت قاعدتين أمريكيتين، ما أدى إلى رفع أعداد أفراد جنود الناتو في العراق من 500 إلى 4000 عسكري، رغم مطالبة بعض القوى والأحزاب العراقية، خاصة المدعومة من إيران، بخروج القوات الأمريكية من العراق.
لا تزال حصة إقليم كردستان في موازنة 2021 مثار جدل وخلاف بين الكتل البرلمانية، حيث يرى بعض نوّاب البرلمان العراقي أن على الإقليم تسليم إنتاجه من النفط برمته إلى الحكومة الاتحادية، مقابل تخصيص حصة للإقليم في الموازنة الحالية، فيما يرى نواب كرد أن حصة الإقليم من هذه الموازنة تحوّلت إلى دعاية بيد الساسة والأحزاب مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية. فيما يرفض إقليم كردستان تسليم عائدات النفط إلى الحكومة المركزية في بغداد، في حين تعمل جميع أقاليم العراق الأخرى على تسليم مواردها النفطية من ضمنها محافظة البصرة الغنية بالنفط.
هناك نواب من كتل سياسية شيعية ترفض تمرير الموازنة بحصة إقليم كردستان، بحجة أن الإقليم يسلم نصف إنتاجه النفطي، ويتسلم حصة كاملة، حيث يصدر نحو 430 ألف برميل يومياً عن طريق ميناء جيهان التركي، في حين تُلزم مسودة موازنة 2021 حكومة الإقليم بتسليم 250 ألف برميل، إضافة إلى 50% من واردات المنافذ الحدودية.
البرلمان العراقي يؤكد أن الإقليم لم يلتزم بتعهداته بموجب بنود موازنة 2019. وهكذا يستمر الصراع بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان، ولا توجد حلول في الأفق على إيقاع الضربات الجوية وظهور بعض العناصر الإرهابية.
تظهر ملامح الأزمة من خلال تعامل الطرفين مع موضوع الموازنة حسب قوانين المحاصصة الطائفية وروح الغنيمة من دون التفكير في الهوية الوطنية والانتماء إلى الوطن، بينما عليهما أن يفكرا في إعادة النظر إلى مصلحة الشعب وبناء العراق، بنظرة جديدة، قائمة على أسس منطق الدولة الواحدة أي تعامل الإقليم مع بغداد في الإطار الفيدرالي وليس الكونفدرالي، لأنهما دولة واحدة لا دولتان.
في كل عام، تشتعل قضية تخصيصات إقليم كردستان عندما يحين وقت التصويت على الموازنة المالية في العراق، كما هو الحال في موازنة 2021 المُعلقة حتى الآن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة