جيلنا الذي جاء إلى الدنيا بعد الحرب العالمية الثانية عاش الكثير من الأحداث والتغيرات الكبرى التي قلبت العالم رأساً على عقب لعدة مرات.
وعندما شب عن الطوق وعيا ودراسة كان العالم يعيش الحرب الباردة في أكثر لحظاتها توتراً وأزمة، فلم يكن أطرافها يلعبون على زناد أسلحة تقليدية، وإنما كان السلاح النووي منذ تجربته في هيروشيما وناجازاكي قد تطور كثيراً من حيث مداه بالصواريخ ومن حيث ما تحمله الرؤوس النووية من قدرة على تدمير الكرة الأرضية.
عشنا اللحظة التي وقف فيها العالم على أطراف أصابعه أثناء أزمة الصواريخ الكوبية ١٩٦٢، والتي قيل بعدها إنه كانت هناك فرصة من كل ثلاث فرص أن تنشب الحرب التي ليس بعدها حروب. ولكن الأزمة في جانب آخر منها أيقظت الكثير من الوعي بقدر ما أثارته من رعب وخوف، فعشنا مع سبعينيات القرن الماضي ما عرف بالوفاق، ومن بعدها جاءت مرحلة أخرى للحرب الباردة انتهت مع نهاية الثمانينيات بانتهاء الحرب الباردة وجاء ما عرف بالعولمة التي يقودها قطب واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا حلت الألفية الثالثة بعد الميلاد مبشرة بعالم ربما يكون أكثر استقراراً ونعيماً بفضل منتجات ما بات معروفاً بالثورة العلمية التكنولوجية الثالثة، ولكن عقدين من الزمن لم ينتج عنهما لا على المستوى الدولي أو الإقليمي في الشرق الأوسط ما يجعل حكم السعادة قائماً. ولكن العالم بات معروفاً أكثر من أي وقت مضى، وقواعد اللعبة الدولية قد لا تكون كلها مناسبة لمن كان مثلنا من دول العالم غير الغربية. وكأنه لم يكن ممكنا أن يمر العمر دون إضافة حدث كوني جديد يهز أركان الكرة الأرضية كلها ممثلا في أزمة كورونا أو الفيروس التاجي أو باختصار "كوفيد - ١٩".
مع حلول عام ٢٠٢٠، وصلت جائحة كورونا إلى كل قارة، وتركت مئات الآلاف من القتلى والمصابين، وزعزعت آثارها الاستقرار العالمـي والاقتصـادي والسياسـي والاجتماعـي. تم قلب الحياة اليومية لملايين آخرين بطرق كبيرة وصغيرة. أغلقت المكاتب والمصانع والمدارس لفترات طويلة. تدافعت المستشفيات على المعدات والأسرّة. الملايين فقدوا وظائفهم، وتتفاعل الحكومات حول العالم بطرق مختلفة مع الأزمة. فمنذ بداية عام ٢٠٢٠، ظلت "أزمة كورونا" منذ انتشار الفيروس الغامض في الصين في "ووهان"، حاكمة للسلوكيات العامة في الدول والعلاقات الدولية؛ وكل ما لا يؤثر مباشرة مع مواجهة الفيروس كان إما مؤجلاً وإما لا يلقى الاهتمام الكافي.
ولقد شعر العالم بالفعل بتأثير واسع النطاق من خلال خفض الوظائف، وتعطيل سلاسل النقل والإمداد العالمية، وتراجعت أرباح الشركات، وتراجعت الأرقام القياسية في البورصات العالمية؛ ووضع العالم يده على صدره خوفاً من وصول العدوى إلى الكثير من الدول النامية في أفريقيا غير المستعدة لمواجهات من هذا النوع، وهو ما حدث فعلياً على أي حال. ولكن الحقيقة هي أن هذا الفيروس بات امتحاناً للدولة القومية متقدمة أو نامية وقدرتها على المواجهة، كما أنه اختبار للتعاون الدولي ومدى القدرة على احتواء العدوى في عالم تعددت وسائل اتصاله المادي من خلال التجارة والتبادل والسفر.
تغيرت أحوال كثيرة في الكون ومع هذه التغيرات جرت معها أحلام كثيرة كلها تعلقت بإنتاج اللقاح الذي سوف يكون عليه أن يطعم البشر ويعطيهم المناعة، ومن ثم تعود البشرية إلى حالتها الطيبة الأولى. كانت نهاية عام ٢٠٢٠ هي المدى الزمني الذي تكرر الحديث عنه بعد فترات من الوعود والآمال المحبطة التي كان الظن ساعتها أن العالم بات قادراً على التعامل مع أنواع شتى من الأمراض والأوبئة.
انتهى العام على أي حال ولم يكن هذا الحل السحري متاحاً حتى بعد أن تدافعت شركات على الإنتاج والتوزيع وحتى بدأ بالفعل توزيع اللقاح المنتصر. ومع ذلك فإن الأمر كله ظهر على درجة من التعقيد الذي جعل مواعيد الخلاص تتراجع حتى خلال العام الحالي ٢٠٢١، وتحدثت منظمة الصحة العالمية عن أن حلم العودة للحياة الطبيعية سوف يتأخر حتى بداية العام المقبل ٢٠٢٢، وحتى في هذه الحالة لن يكون الأمر طيباً تماماً، وإنما سوف يكون من الضروري الاستمرار في الكثير من الإجراءات الاحترازية.
تساءلت نشرة "كيسر هيلث نيوز أو Kaiser Health News" الأمريكية في ٢٣ فبراير ٢٠٢١ في مقال "بعد مليارات الدولارات وعشرات من الإعلانات في زمن الحرب، لماذا لا تزال اللقاحات غير متوفرة؟". استطردت قائلة: استثمرت الحكومة الأمريكية مليارات الدولارات في التصنيع، واستخدمت أفعال الحرب عشرات المرات لتعزيز الإمدادات، ومع ذلك لا يوجد لقاح كافٍ للفيروس في الطريق لتلبية الطلب أو حتى أهداف الحكومة الخاصة بالتحصين الوطني. قال الرئيس جو بايدن إن الأمة "تسير الآن على المسار الصحيح لتوفير إمدادات كافية لـ٣٠٠ مليون أمريكي بحلول نهاية يوليو". ولكن وفقاً لمعدل الإنتاج الحالي، ستفقد شركتا Pfizer وModerna أهدافهما المتمثلة في توفير ما لا يقل عن ١٠٠ مليون جرعة بحلول نهاية شهر مارس، ناهيك عن ٢٠٠ مليون جرعة إضافية وعد بها كل منهما بحلول يوليو. ستحتاج Moderna إلى أكثر من ضعف معدل إنتاجها للقاحات اعتباراً من يناير - عندما قدمت ما يقرب من ١٩ مليون جرعة - للوفاء بالتزاماتها التعاقدية. قدمت شركة Pfizer ٤٠ مليون جرعة لقاح بحلول ١٧ فبراير، وأمامها ستة أسابيع تقريباً لتوصيل أول ١٢٠ مليون جرعة وعدت بها. ويقول بايدن ومسؤولون من الشركتين إنه يتم توسيع الطاقة الإنتاجية بسرعة. لكن النقاد يريدون أن يعرفوا ما إذا كانت الحكومة قد فعلت ما يكفي، بالسرعة الكافية، لضمان أن الشركات ستواجه التحديات الملحة للوباء. أما بالنسبة للمصنعين المدعومين بمبالغ غير عادية من أموال دافعي الضرائب، فلماذا لا يتشاركون التكنولوجيا والمعرفة في وقت أقرب، أو ينتقلون بسرعة أكبر إلى شراكات إنتاج استراتيجية؟
لاحظ أن هذا يحدث في الولايات المتحدة، حيث الطاقات العلمية والتكنولوجية الجبارة حاضرة بقوة، وهناك أكثر من ذلك الالتزام السياسي للرئيس الأمريكي الجديد بأن يعود الأمريكيون إلى حياتهم الطبيعية مع عيد الميلاد القادم أي في نهاية العام تقريباً.
بقية دول العالم، حيث لا توجد هذه القدرات ولا هذه الالتزامات، بات عليها أن تعيش مع الوباء لعام آخر. ماذا يحدث خلال هذا العام، وهل سوف ينتهي الأمر فعلاً مع العام القادم أم أن هناك تحولات وتحديات أخرى سوف تفرض نفسها؟ من الثابت أن عمليات إنتاج وتوزيع اللقاح ليست بالبساطة التي جرى تخيلها في البداية، كذلك فإن الفيروس بات قادراً على إنتاج أنواع جديدة من نفسه متغيرة في بريطانيا وجنوب أفريقيا والهند ومؤخراً كاليفورنيا.
الثابت من تجربتنا مع "كوفيد - ١٩" أن هناك ممالك أخرى من المخلوقات تنتظرنا، وكما هي العادة غريبة ومميتة. ولكن ربما يكون هذا سببا مهما في تحقيق نوع من التواضع الإنساني في مواجهة النفس الإنسانية حتى تسترجع بعضاً من تواضعها. والبشرية لا تزال مهددة من ممالك أخرى ربما تكون أصيلة لم نرها، وربما تكون تحولات أو Mutations لممالك قديمة تحركت أو قامت من رقادها نتيجة محفزات ربما كنا نحن في عالمنا الحالي أطلقناها. هذا المقال ليس نوعاً من التشاؤم وإنما هو دعوة للتحفيز في عالمنا العربي، فربما نحتاج إلى قمة عربية تخص التعامل مع الوباء وغيره من الكوارث غير المنظورة؛ عالم الشمال يتعاون بالفعل قدر المستطاع، ولكننا في عالمنا الخاص لا ينبغي الانتظار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة