إن الاستثمار باحث عنيد عن الأمن والاستقرار، وعن الغطاء السياسي والاجتماعي والقانوني الذي يستظل بظله.
لا أحد في تونس ينكر أن البلاد تمر بأزمة اقتصادية ومالية متفاقمة تنذر بعواقب وخيمة على الصعيد الاجتماعي، ولا أحد يستطيع أن يعد بحلول سحرية أو عاجلة، وإنما يكاد الأمل ينحصر في جلب الاستثمارات التي لا تأتي إلا بندرة فائقة، أو في تطوير مستويات الإنتاج الزراعي المرتبط عادة بالمناخ والتداول الموسمي، أو في الرفع من أعداد الوافدين في إطار السياحة الرخيصة التي تكاد تكاليفها بالعملة المحلية تفوق مداخيلها بالعملات الأجنبية، أو في الرفع من مستويات التداين والحصول على القروض بفوائض مرتفعة، وهو الشر الذي لا بد منه.
أي شريك تونسي يمكن أن تتعامل معه الرياض في هذه الحالة؟ هل تتعامل مع رئيس الجمهورية الذي لا يمتلك أي صلاحيات في الشأن الاقتصادي والمالي؟ أم مع الحكومة التابعة أو المتآلفة أو المتحالفة مع حركة النهضة ذات المرجعية الإخوانية التي لم يعد خافيا أنها منخرطة في حلف معاد للمملكة؟
وإضافة إلى ذلك، يحتاج التونسيون إلى فهم طبيعة ما يدور حولهم في العالم، فحتى فرنسا التي تربطها مع تونس علاقات تاريخية باعتبارها المستعمر القديم للبلاد، تواجه أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، وأغلب الدول الأوروبية لا تقدم منحا ولا قروضا، وإنما تكتفي بمعونات بسيطة لمنظمات المجتمع المدني الدائرة في فلكها، والولايات المتحدة لا تقرض ولا تموّل مشروعات كبرى، ولم تعد راغبة في التأمين على الديون المتراكمة لدى المؤسسات المالية الدولية الكبرى؛ ما يجعل الحكومة التونسية تتجه إلى سوق الإقراض المفتوحة بفوائد عالية، وهو ما يزيد من حجم الحمولة الزائدة على إنتاجها الوطني الخام، وما يجعل نسبة المديونية ترتفع حاليا عن ما كانت عليه عام 2011، مع نسبة تضخم غير مسبوقة، وتراجع لقيمة العملة المحلية لم تعرفها منذ استقلال البلاد قبل 62 عاما.
إن تونس ليست قادرة على الانفتاح الكلي على الصين، لأنها مرتبطة بتبعية شبه مطلقة لواشنطن والاتحاد الأوروبي اللذين لا يخفيان خشيتهما من زحف التنين الأصفر على منطقة شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، وليس لها من القدرة ما يعطيها الجرأة على الانفتاح على الشرق الأقصى، خصوصا بعد أن باتت رهينة للغرب الذي اخترق أغلب مؤسساتها وأحزابها ومنظماتها وأسواقها، وحتى جيوب مواطنيها.
حتى ليبيا، التي كانت الملجأ الأول والأخير لتونس، لم تعد هي ذاتها ليبيا معمر القذافي بمجاملاته، ومواقفه الاجتماعية والأمنية، وإنما تحولت إلى بلد يعاني بدوره من أزمات عدة، ومحكوم بحسابات براجماتية لسياسيين يتعاملون مع من يرونه أقدر على خدمة مصالحهم الشخصية والحزبية، وربما الميدانية كذلك، كما تبدو الجزائر منكفئة على نفسها وغير متحمسة لما يدور على الساحة التونسية، إلى جانب ضبابية الوضع السياسي فيها، وتراجع اقتصادها واتجاهها نحو إصلاحات جذرية.
في ظل الوضع، لم يعد لتونس إلا الدول العربية الخليجية الثرية القادرة على إنقاذ اقتصادها بمجرد اتفاق في جلسة عمل، وعندما أدى الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي زيارة خاطفة إلى البلاد، كثر الحديث عن مساعدات قادمة من الرياض، خصوصا وأن المملكة تحتل حاليا المرتبة الثالثة على مستوى مجموعة العشرين من حيث الاحتياطي النقدي، بعد الصين واليابان، بما قدره 507 مليارات دولار، ولديها استثمارات حكومية، وخاصة في الخارج، تصل إلى 1.25 تريليون دولار.
لكن ما لم يتم التساؤل حوله هو: أي شريك تونسي يمكن أن تتعامل معه الرياض في هذه الحالة؟ هل تتعامل مع رئيس الجمهورية الذي لا يمتلك أي صلاحيات في الشأن الاقتصادي والمالي؟ أم مع الحكومة التابعة أو المتآلفة أو المتحالفة مع حركة النهضة ذات المرجعية الإخوانية التي لم يعد خافيا أنها منخرطة في حلف معاد للمملكة؟ أم مع البرلمان الخاضع بدوره لتجاذبات سياسية، وتبدو فيه أصوات الإسلام السياسي وحلفائه أقوى من أصوات البقية؟ وهل يمكن أن تقدم دولة كالمملكة أو أي من حلفائها دعما لتونس ليستفيد منها من يعادونها، ويتحالفون مع من يتآمرون عليها، ويقودون حملات الإساءة لها ولرموزها؟
وعندما نتحدث عن السعودية فإننا نتحدث كذلك عن الإمارات التي يبلغ حجم استثماراتها الحكومية والخاصة في الخارج أكثر 1.5 تريليون دولار، والتي تتعرض يوميا إلى حملات معادية من قبل شخصيات سياسية وأحزاب ومنصات إعلام تونسية بسبب دفاعها عن مصالحها في وجه المشروع الإخواني القطري الذي كان قد وضعها في دائرة الاستهداف، مثلها مثل أغلب دول المنطقة.
كما أن رجال الأعمال الخليجيين لا يبدون حماسة للاستثمار في تونس لأسباب عدة، من بينها تأثرهم بالمواقف السياسية لحكوماتهم، وضبابية الرؤية في غياب الاستقرار السياسي بتونس، وعدم استقرار المنطقة ككل، ووجود أسواق استثمارية أخرى أكثر جاذبية وجدوى، خاصة في شرق أوروبا، وجنوب شرق آسيا، وشرق ووسط أفريقيا.
حتى قطر التي لا تكفّ عن تمويل حلفائها وأتباعها في المنطقة والعالم، وعن عقد صفقات التسلح بمليارات الدولارات، وعن شراء الولاءات الدولية وصمت العواصم المؤثرة، لا تبدي أي تعاطف فعلي مع تونس، في انتظار أن يؤول الحكم، بطمّ طميمه، إلى مناصريها من الإسلاميين، وأن تضمن أن يستمروا في الحكم لعقود عدة.
إن الاستثمار باحث عنيد عن الأمن والاستقرار، وعن الغطاء السياسي والاجتماعي والقانوني الذي يستظل بظله، وعن الشفافية والحوكمة الرشيدة التي يتنفس منها أكسيجين المجازفة، وفوق كل ذلك هو سياسة وحسابات ومصالح دول، وهو نتاج طبيعي للتحالفات والمواقف، والمستثمر سواء كان دولة أو مؤسسة أو فردا يبحث عن الشريك الفاعل الذي يتعامل معه، والذي يستطيع أن يثق فيه وفي استمراريته، وعندما يفتقد إلى هذا الشريك في أي بلد؛ يتجه إلى بلد آخر، يجد لديه الضمانات التي يحتاجها، ويستطيع الاتكاء عليها في تنفيذ استثماراته.
وللأسف، فإن المشهد السياسي الحالي في تونس لا يزال بعيدا عن القدرة على توفير تلك الضمانات، في انتظار ما تسفر عنه المرحلة القادمة، وخاصة بعد انتخابات 2019.
نقلا عن "العرب اللندنية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة