يوماً بعد يوم تسقط الأقنعة عن النظام التركي ورئيسه رجب طيب أردوغان؛ فلم يعد هناك من يستطيع أن يدافع عن "الديمقراطية التركية"
يوماً بعد يوم تسقط الأقنعة عن النظام التركي ورئيسه رجب طيب أردوغان؛ فلم يعد هناك من يستطيع أن يدافع عن "الديمقراطية التركية"، أو "الصداقة وحسن الجوار"، بعدما ظهرت الصورة القاتمة الغارقة في الاستعلاء والتجبر، والحرص على تحقيق المصالح الضيقة على حساب سيادة الدول المجاورة، وحدودها المنتهكة، وشعوبها الضعيفة.
في تلك الآونة بالذات، يتبجح "الإيراني" حين يعلن أنه يسيطر على القرار في أربع عواصم عربية، أو أنه "استعاد الامبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد"، أو أن "ثورته المذهبية تتقدم كل يوم وتكسب أرضاً في العالم العربي"، فيسلط الضوء على الخطر الذي يُصدره للأمة العربية، ويكشف النقاب عن التداعيات المؤثرة لتراخي المجتمع الدولي عن مواجهته والحد من سياساته التوسعية ذات الطابع التدميري.
لكن "التركي" لا يقلد الإيراني الذي يمارس سياسة فيها الكثير من السذاجة وعدم النضج تقوم على التبجح والتسرع في تحقيق المكتسبات، بل يختفي وراء لغة مموهة، يجعل من خلالها حروبه التوسعية العدوانية مجرد "أغصان زيتون"، ومحاولات لـ "الدفاع عن النفس" متخفياً خلف الهالة المصطنعة له.
إن مواجهة المشروع التركي وغيره من المشروعات التي تستهدف وتهدد الأمن القومي العربي يجب أن تواجه بمشروع عربي تقوده الدول الفاعلة على أن يكون مشروعاً متكاملاً، ينطلق من رؤية استراتيجية، ويوازن بين القوى الصلبة والناعمة والذكية، وكلنا أملٌ ألا يتأخر العرب في ذلك حتى لا نندم حين لا ينفع الندم
لقد أسكرت إيران نشوةُ النصر فتخلى مسؤولوها عن حذرهم، فباتت وقاحتهم بادية للجميع، فيما لا تزال تركيا حذرة في إظهار أطماعها، وتحاول بين الفينة والأخرى الحصول على إعجاب العالم وتقديره من خلال استخدام رطانة ليبرالية، ومفردات تنتمي للديمقراطية، وتعبيرات متداولة في المراجع الحقوقية.
تلك هي خطورة "العثمانية الجديدة".. أنها لا تصارح العالم، ولا المنطقة، برغبتها في بناء الإمبراطورية من جديد، حتى ولو كان ذلك على حساب سيادة الدول المجاورة، وأمنها، ومستقبلها.
تأتي العثمانية الجديدة مختبئة في شكل نظام ديمقراطي، ومستخدمة خطاباً حداثياً، بينما ترتكب كل الخطايا التي عرفها التاريخ عن الإمبراطوريات الاستعمارية التي بنت أمجادها على أشلاء البسطاء من شعوب الدول المجاورة.
في منتصف الشهر الجاري، قال يوهانس هان، المفوض الأوروبي المكلف بسياسة الجوار، ومفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتوسيع عضويته، إن "تركيا تواصل الابتعاد بخطى واسعة عن الاتحاد الأوروبي، خصوصاً في مجالي سيادة القانون، وحقوق الإنسان".
يدعو أردوغان إلى انتخابات رئاسية مبكرة، لكي يؤّمن سلطات وصلاحيات مطلقة لذاته، في رئاسة الدولة، ويفتح الباب أمام حكم مطلق أبدي له، ولمن يختاره من بعده، مستخدماً آليات الحكم الديمقراطي، لكن هذا لم يعد ينطلي على أحد.
باتت تركيا في عهد أردوغان، وخصوصاً بعد المحاولة الانقلابية في صيف 2016، واحدة من أكبر سجون العالم للصحفيين والناشطين والسياسيين، وأكثر بلدان العالم بطشاً بالمعارضين، عبر القرارات الجائرة بسجن، وطرد، وإعدام، وإيقاف عمل عشرات الآلاف من الذين يعتقد أردوغان أنهم يعارضون سلطته.
تركيا الأردوغانية مسكونة بالحلم الإمبراطوري، ومسلوبة للنزعة السلطانية؛ وهي بذلك ترتكب أكبر الأخطاء، لأن التاريخ لا يكرر نفسه أبداً، ولأن الأوضاع تغيرت، بحيث لا تسمح بأن يجلس السلطان، في "الباب العالي"، ويحكم الشعوب في بلاد العرب، وإفريقيا، وشرق أوروبا.
تحتل قوات أردوغان أراضي في دولتين عربيتين راهناً، وتنتشر في دولة ثالثة، والغرض في كل تلك الحالات ليس سوى بناء قواعد الإمبراطورية، وتكريس الاستعلاء العثماني، بحق الشعوب العربية.
لا تستند التحركات العسكرية العدوانية لتركيا في الجوار العربي إلى أي ميثاق أو عهد أو معيار أو قانون، ولا تمتلك أي ذرائع أخلاقية، ولا يمكن أن تسوغها تلك التصريحات المختلقة والمتضاربة عن الدفاع عن النفس ومقاومة الإرهاب.
بات العالم يعرف جيداً من الذي رعى الإرهاب في تلك المناطق، ومن الذي سمح بآلاف المقاتلين من "الدواعش" بالدخول إلى الأراضي المستباحة في سورية والعراق، ومن الذي أمَّنَ لهم "الإنترنت"، والإمدادات، والمعدات، بداعي "الجهاد".
اليوم تظهر الأدلة على لعبة جديدة يلعبها السلطان الشغوف بالسلطة والمسكون بأحلام الخلافة والتوسع الإمبراطوري؛ إذ تقدم تركيا (ذات اللغة محدودة الاستخدام، ونظام التعليم الأقل من المتوسط، والموارد التي تتعرض للضغوط) نفسها إلى المنطقة باعتبارها منصة لتعليم الشعوب.
تستخدم تركيا نظاماً للمنح الدراسية كآلية للتأثير السياسي والتوسع وبناء نقاط ارتكاز في مجتمعات عربية وأفريقية، بما يصب في تعزيز قواعد "الحلم التوسعي الإمبراطوري".
فحسب وكالة "الأناضول"، ثمة 5000 منحة دراسية سنوياً تمنحها أنقرة لأبناء أكثر من 90 دولة حول العالم؛ وهو أمر يذكرنا بما كانت تفعله إيران؛ الطامحة إلى التوسع رغم كونها تعاني من قلة الإمكانيات والضغوط وتفاقم الاحتياجات.
تلعب تركيا لعبتها في القرن الإفريقي، بغرض بناء نقاط ارتكاز لها، على قاعدة الأيديولوجية الإخوانية، ومن خلال التحالف مع قطر.
هذا الثلاثي (تركيا، قطر، تنظيم الإخوان) يلعب لعبة كبيرة وخطيرة بغرض الاستفراد بالدول المحيطة بالإقليم العربي، واستلاب إراداتها، من أجل تطويق العالم العربي، وإعادة بناء الإمبراطورية العثمانية، على ركائز "إخوانية".
من بين المنح الـ 5000 التي تمنحها تركيا سنوياً، ثمة 1000 منحة مخصصة لأفريقيا، وخُمْس هذه المنح ذهب إلى الصومال وحدها في العام الماضي. وقد أنهى 118 صومالياً تعليمهم في تركيا، منذ بداية برنامج المنح في 2011، من أصل 932 صومالياً ما زالوا يدرسون حتى وقتنا هذا في هذا البلد.
ولن يغيب عن المراقبين والمحللين أن يربطوا ذلك كله بسلوك حكومة مقديشو المشبوه مؤخراً تجاه الإمارات التي دأبت على مد أياديها البيضاء لكثير من الدول، ومنها الصومال لتحقيق السلام والأمن والإسهام في عملية التنمية في هذا البلد. ومن هنا فإنه ليس من المستغرب أن تستهدف سلطات مقديشو طائرة إماراتية أتت بأفرادها من أجل المساعدة والمساندة، إذا عرفنا ما تفعله تركيا وقطر والإخوان في الخفاء.
تريد أنقرة أن تخلق طابوراً خامساً في تلك البلدان، ومنها الصومال، وأن تنفذ إلى عمق المجتمع، وأن تضمن حصة بين قادة المستقبل يدينون بالولاء لها، وهي إنما تفعل ذلك لأسباب تجارية بحتة ولاسيما في ظل الحديث عن طريق الحرير الجديد الذي رسمته الصين، والذي يمر خطه البحري الأول بقرن أفريقيا، ولو كان هدفها إنسانياً كما تدعي فأين كانت تركيا طوال السنوات العشرين الماضية من محنة الصوماليين وهم الذين لم ينالوا منها إلا ما ناله الفلسطينيون من متاجرة بقضيتهم من دون تقديم أي دعم عملي ملموس؟
بدلاً من أن تكون تركيا جاراً مسلماً شريكاً على قواعد حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الآخرين، تحولت إلى معتد جائر ومتبجح، وبسبب أوهامها التسلطية، ونزعتها الاستعلائية، وسلوكها التوسعي، تصب المزيد من الزيت على النار، وتصدر للمنطقة المزيد من الإرباك.
إن مواجهة المشروع التركي وغيره من المشروعات التي تستهدف وتهدد الأمن القومي العربي يجب أن تواجه بمشروع عربي تقوده الدول الفاعلة على أن يكون مشروعاً متكاملاً، ينطلق من رؤية استراتيجية، ويوازن بين القوى الصلبة والناعمة والذكية، وكلنا أملٌ ألا يتأخر العرب في ذلك حتى لا نندم حين لا ينفع الندم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة