"تكتيكات رمادية".. كيف تستهدف تركيا الجيوش العربية؟
المشروع التركي اكتسب زخما بفعل تفاقم التناقضات الدولية وتنامي الدعم المتصاعد الذي تقدمه أنقرة بسخاء للتنظيمات الراديكالية.
تمتلك تركيا مشروعا إقليميا توسعيا يقوم على التمدد الإقليمي والانتقال من نطاق القدرة على التأثير السياسي إلى حيز التحرك الفعلي على الأرض عبر "أدوات خشنة" تستند إلى أيديولوجية "قومية متطرفة" تنظر إلى جوارها بحسبانها "ساحات رخوة".
وتزعم تركيا أنها قادرة على احتكار "القوة" بفعل انتشار التنظيمات الإرهابية والمليشيات المسلحة التي عمدت أنقرة لشرعنة وجودها ودعم تسليحها وربطها بسياساتها إما عبر غطاء ديني أو من خلال إدعاءات "الإرث العثماني" أو انطلاقا من روابط أيديولوجية تدين بها تيارات الإسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة الإخوان.
واكتسب المشروع التركي زخما بفعل تفاقم التناقضات الدولية وتزايد الصراعات الإقليمية، وتنامي الدعم المتصاعد الذي تقدمه أنقرة بسخاء للتنظيمات الراديكالية التي غدت أقرب إلى "وكلاء محليين" يدينون بالولاء للقيادة التركية التي باتت تتولى مهام تدريبهم وتمويلهم سعيا إلى توظيفهم في مشاريعها الإقليمية داخل البلدان العربية.
جاء ذلك في مرحلة حاولت أنقرة ومنصاتها الإعلامية أن تجعل عنوانها "العداء للجيوش الوطنية"، والترويج إلى أنها تمثل تهديدا لاستقرار الدول العربية لا ضمانة لتحقيقه.
ولم ترتبط تركيا خلال السنوات الأخيرة بعلاقات جيدة مع أي من الجيوش العربية الرئيسية، وإنما توثقت علاقاتها بالفواعل من دون الدولة، سيما التنظيمات الراديكالية والمليشيات الإرهابية التي تجابه هذه الجيوش وتعمل على استنزاف قدراتها.
وقد أضحى الأغلبية من هذه الجماعات الإرهابية يحمل "مسميات عثمانية"، بدا ذلك مؤخرا، على سبيل المثال، في التنظيمات التي زجت بها أنقرة على ساحة الصراع في ليبيا كفصيل "سليمان شاه" ومليشيات "السلطان مراد" و"لواء المعتصم" و"لواء السلطان عثمان"، و"جيش الأحفاد".
الجيوش العربية.. محركات الاستهداف التركية
تبنت تركيا في سبيل تحقيق غاياتها "تكتيكات رمادية" تقوم على "خلطة" من الأدوات الإعلامية والسياسية والعسكرية والاستخباراتية تستهدف تعزيز حالة عدم الاستقرار وإضعاف الروح الوطنية وإشاعة الانقسام والفرقة.
وجاء ذلك بالتزامن مع العمل على استقطاب كوادر عربية للدفاع عن سياساتها وعن أحقيتها في التدخل العسكري في مناطق الجوار الجغرافي، إما بدعوى مواجهة الإرهاب أو لاستعادة حقوق تاريخية في أرض ارتبطت بالإرث العثماني الذي يسعى الرئيس التركي إلى إحيائه.
ويُعد، وفق هذا المنظور، وجود جيوش عربية متماسكة الجهة القادرة على مجابهة طموحات تركيا الإقليمية القائمة على زعزعة الاستقرار وتأجيج الصراعات المناطقية والاجتماعية والدينية على نحو يوفر بيئة محلية تعاني من انتشار الجماعات الإرهابية التي ترفع راية الجهاد وتعمل لحساب المشروع التركي.
وقد تعددت دوافع تركيا وتنوعت محركاتها السياسية والأمنية في هذا السياق، وذلك على النحو التالي:
التيار القومي المتطرف:
خلال السنوات الخالية صعدت مجموعة من المحسوبين على التيار القومي المتطرف لتسيطر على المشهد السياسي في تركيا، في مختلف مؤسسات الدولة سيما الحزب الحاكم.
وشكلت هذه التيارات أجنحة داخل الجيش التركي. ومع تقدم سن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وصعود أدوار صهره، براءات البيرق (حليفها الجديد) باتت المتحكم الرئيس في صناعة القرار السياسي على الصعيدين المحلي والإقليمي.
ويؤمن هذا التيار بأن ثمة مشاريع دولية تستهدف إعادة تشكيل خارطة الإقليم على نحو يجعله يتحرك استباقا للعمل على تنفيذ مشروعه الإقليمي التوسعي من خلال "الأدوات الخشنة" وعبر الإفراط في استخدام القوة العسكرية والتوجه المكثف لإقامة القواعد العسكرية، على نحو يعيق إعادة تشكيل مؤسسات عسكرية عربية قادرة على مقاومة "مشاريع إعادة التموضع" التركي عبر احتلال مزيد من الأراضي في مناطق الجوار الجغرافي.
أيديولوجية الإخوان الإرهابية:
تنتمي القيادة التركية إلى تنظيمات دينية متشددة مثل المللي جورش، والتي تمثل النسخة التركية من تنظيم الإخوان الإرهابي، بما جعلها تؤمن بأفكارها وتعتنق أيديولوجيتها المتشددة والقائمة على العداء للمؤسسات العسكرية الوطنية لصالح اعتناق الأفكار العابرة للحدود الوطنية.
وباتت تلك الأفكار العابرة تتلاقى مع أفكار اليمين القومي بشأن ضرورات إحياء الدولة العثمانية، وهي تؤمن أيضا بأن تحقق ذلك لن يأتي إلا عبر الأدوات الخشنة، بعدما فشلت جماعات الإسلام السياسي في تثبيت حكمها في أكثر من بلد عربي.
لذلك، فإن الدعم التركي لتنظيم الإخوان والفصائل والتنظيمات المتشددة كتنظيم أحرار الشام ومجموعات من تنظيم داعش يأتي ليس وحسب انطلاقا من التلاقي الفكري والإيديولوجي، ولا من حيث الولاء واعتناق "العقيدة العثمانلية" على حساب إعلاء المصالح الوطنية.
وإنما تأسيسيا على طبيعة العداء المشترك للجيوش العربية والنظر إليها بحسبانها تمثل عائقا أمام مشروع الدولة الإسلامية وإحياء دولة الخلافة، بحسبانه مشروع كبير، يتضمن "مشاريع صغيرة"، كل منها يسعى إلى تحقيقه.
الأطماع الاقتصادية:
تدرك تركيا أن الدولة العثمانية تمددت وتوسعت، ولكنها سقطت حينما فقدت القدرة على التمدد وجلب الموارد واستقطاب الكوادر؛ لذلك تعي أنقرة أن التغلب على مشكلاتها الاقتصادية قد تكون عبر التمدد الخارجي، لا "الانكماش" و"التقوقع" حول الذات، أو حتى عبر الاستعاضة عن ذلك بتعزيز الشراكات مع القوى الغربية.
وتعتبر القيادة التركية أن التحول من دولة مستوردة للطاقة إلى دولة منتجة ومصدرة لها لن يتحقق إلا عبر استغلال الفرصة التاريخية الحاصلة للسيطرة على الأرض العربية المحيطة، ذات السلطات المركزية الرخوة أو المنهارة كليا، سيما الغنية بالنفط أو تلك التي تمثل نقاطا محورية في أي مشاريع مستقبلية لتدشين خطوط نقل الطاقة من الإقليم إلى شمال المتوسط.
تتحدث القيادة التركية في هذا السياق باستفاضة عن طموحاتها في إعادة صوغ جغرافية تركيا بناء على فهمها للتاريخ وإرث الدولة العثمانية التي قايضت راهن جغرافيتها بمستعمراتها العربية القديمة، ذلك قبل أن تتركها تلقى مصيرها في مجابهة قوى الاحتلال الغربية.
"السلطان الحالم":
يعتبر الرئيس التركي أن نشر جيش بلاده وإقامة القواعد العسكرية في المنطقة العربية يمثل مسؤولية تاريخية، بحسب أن تركيا كانت دولة الخلافة.
في هذا السياق، أكد الرئيس التركي رجب أردوغان في خطاب له في أكتوبر الماضي، حق بلاده في التدخل بالشأن الليبي، معللاً ذلك بحسبان ليبيا "إرث أجداده" وجغرافيتها جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، حسب تعبيره.
ووضح ذلك بجلاء في طبيعة المخططات التركية ونوايا وأطماع القيادة التركية في المنطقة العربية، والتي بدت ملامحها واضحة سابقا في سوريا والعراق، وحاليا في ليبيا.
ففي خطاب أردوغان أمام منتدى "TRT World" والذي عقد في إسطنبول قال أردوغان: "الأتراك يتواجدون في ليبيا وسوريا، من أجل حقهم، وحق إخوانهم في المستقبل" ثم أردف قائلا: "الأتراك موجودون في جغرافيتهم احتراما لإرث الأجداد، فهم من نسل يونس أمره" في إشارة إلى القاضي العثماني الشهير.
وأضاف أردوغان "تركيا وريث الإمبراطورية العثمانية"، مشيرا إلى سعيه لإحياء ما وصفه بالمجد القديم للأتراك.
يتصل ذلك بطبيعة السياسات التركية حيال ليبيا، التي توظفها على مستويين أولهما يتعلق بملف غاز شرق المتوسط وثانيها يرتبط بالرغبة الخاصة بالسيطرة على عقود إعادة الإعمار بحسبان ليبيا دولة تمتلك مصادر طاقة هائلة.
وتعتبر أنقرة أن الجيش العربي الليبي يمثل العائق في سبيل المشروع التركي، وإن نجاح مشروع هذا الجيش يعني القدرة على تكرار موقف الجيش السوداني حيال الاتفاق التركي - السوداني بشأن الاستغلال العسكري لشبه جزيرة سواكن.
الاقتضاء بـ"النموذج الإيراني": تُحاكي القيادة التركية سياسات إعادة التموضع والتوسع الإيرانية وتكتيكاتها في استغلال ساحات البلدان العربية المضطربة للتوسع ودعم النفوذ عبر دعم مليشيات طائفية مسلحة تدعم مصالحها حتى في مواجهة جيوش بلدانها الوطنية.
وعملت تركيا على دعم تنظيمات سنية متطرفة ووجهتها كما إيران لخدمة أجندتها ومشروعها الإقليمي، فظهر في سوريا الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا عسكريا وتسليحا وتمويليا، كما ظهر في العراق الحشد الوطني العراقي في محاولة لمحاكاة الحشد الشعبي، وفي كتيبة أبو سليم وكتيبة النواصي هذا إضافة إلى الحرس الوطني والذي يشمل 4 مليشيات تابعة للجماعة الإسلامية المقاتلة بقيادة عبدالحكيم بلحاج.
أدوات تركيا في محاربة الجيوش العربية
تعددت الأدوات التركية وتنوعت أنماط التحركات التي جاءت على مستويات مختلفة، وذلك على النحو التالي:
"إشغال" الجيش التركي:
يعتقد الرئيس التركي أن أكبر تحدٍ لحكمه، على الصعيد المحلي، يتمثل في المؤسسة العسكرية، وعلى الرغم من أن سيطرة الجناح الموالي له على المؤسسة العسكرية؛ فإنه لا يزال يعتقد أن إشغال أفرع الجيش المختلفة وتفريغ طاقتها في مشاريع قومية خارجية في ظل بيئة محلية مكتظة بالشعارات الشعبوية يمكن أن يضمن درجة عالية من استقرار النظام السياسي التركي.
لذلك سعى الرئيس التركي إلى تعبئة طاقة المؤسسة العسكرية وتوجيه أنظارها أو أي "فائض قوة" لديها إلى الساحات الإقليمية المجاورة، هذا بالتزامن مع حشد الرأي العام المحلي لجعل هذا التوجه يغدو كأنه يأتي كدفاع عن المصالح القومية واستقرار الدولة وسلامتها وليس محض الحفاظ على النظام السياسي وبقائه في مواجهة أي تهديدات منشأها الساحة المحلية والبيئة الداخلية.
الدعم القطري:
تعد قطر من الأطراف الإقليمية التي تمتلك رؤية لأدوارها تتجاوز قدراتها وطاقاتها، ورغم ذلك تعتقد أن العائق أمام أي أدوار رئيسية على الساحة الإقليمية يرتبط ببقاء القوى العربية الكبرى التي تستند في تحركاتها على مسرح عمليات الإقليم إلى ميراث تاريخي وقدرات عسكرية وبشرية ضخمة بالمقارنة بها.
وتتشارك قطر مع تركيا الرؤية فيما يخص ضرورة توظيف الجماعات من دون الدولة، وكذلك تنسق معها فيما يرتبط بالسياسات القائمة حيال العديد من التنظيمات والجماعات الراديكالية.
ومحرك ذلك، بتعلق بالرغبة في خلق "دوامات من الفوضى" تفضي إلى إضعاف وإنهاك قدرات وطاقات المؤسسات العسكرية العربية الباقية في صراعات داخلية تضعفها وتحول دون قدراتها على مجابهة المشاريع التركية–القطرية المشتركة.
الترويج للسلاح التركي:
يتصاعد أدوار لوبي السلاح في تركيا وبات يتداخل ويتشابك على نحو معقد عائليا وسياسيا وحزبيا مع النظام السياسي القائم، هذا اللوبي استطاع أن يضاعف صادرات منتجاته إلى أكثر من 5 أضعاف خلال السنوات القليلة الماضية، عبر دفع تركيا لتنشيط تحركاتها العسكرية لتطوير منتجاته من جانب وتسويقها من جانب آخر.
ويعد محرك الترويج للمنتجات العسكرية أحد محركات تكثيف التحركات التركية على الساحة الليبية، ذلك أن "مليشيات الوفاق" تمثل أحد أهم زبائن السلاح التركي، الذي يتم تجربته على الساحة الليبية من أجل تطويره وتسويقه ليس في ليبيا واحدها، وإنما أيضا في ساحات العديد من البلدان الأفريقية الأخرى، فبعد سقوط البشير، عززت أنقرة تحركاتها نحو ليبيا التي تعد فضاء جيوسياسيا مهما ومدخلا مهما إلى القارة الأفريقية، وأقرت حكومة الوفاق بتلقيها دعما عسكريا تركيا سخيا منها طائرات مسيرة، ضمن ما قالت إنها اتفاقيات تعاون عسكري مع أنقرة.
وتحولت الأراضي الليبية إلى مسرح لتجريب تركيا لطائراتها المسيرة (درونز) من نوع "بيرقدار 2"، وذلك رغم استمرار الحظر الأممي على توريد السلاح إلى ليبيا الذي فرضه مجلس الأمن في عام 2011.
وسائل الإعلام:
تعتمد تركيا على وسائل الإعلام، سيما وسائل التواصل الاجتماعي، لدعم مردودات التكتيكات الرمادية التي تتبعها بهدف زعزعة استقرار البلدان العربية، من الدعاية إلى التضليل والتحريض على العنف حيال المؤسسات الوطنية.
ويتم توظيف هذه الوسائط الإعلامية، عبر "لجان إلكترومية" و"مواقع وهمية" على الإنترنت، ومراكز أبحاث، تم تأسيسها حديثا لمحض التشكيك في القدرات و"الزمم" وإضعاف التماسك المؤسسى والتأثير على الحالة المعنوية و"تفخيخ" العلاقة بين المؤسسات العسكرية والشعوب العربية.
إن مشروع تركيا القائم على التوسع والتمدد الجغرافي داخل الأراضي العربية لم يعد يجابه إلا تحديا رئيسيا يتعلق بالجيوش العربية الناجية من مخططات تركيا؛ لذلك عملت على استنزافها عبر جبهات عدة وعلى مستويات مختلفة، ومن خلال تكتيكات رمادية مركبة.
ففي الحالة السورية تحولت الأراضي التركية إلى معبر للجماعات الإرهابية منذ مرحلة مبكرة من عمر الأزمة السورية، وفي الحالة الليبية سعت تركيا إلى استنساخ ذات السيناريو، بما يضمن إضعاف الجيش الوطني الليبي، واستنزاف القدرات المصرية وإشغالها على الجبهتين الشرقية والغربية معا، وصولا إلى هندسة شرق أوسط جديد تضلع فيه تركيا بأدوار أخرى.
ــــ
** محمد عبدالقادر : رئيس تحرير مجلة شؤون تركية – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.