إضعاف الجيش التركي.. الأهداف والمخاطر
موقع وموضع المؤسسة العسكرية في تركيا تراجع في السنوات الأخيرة لمصلحة مؤسسة الرئاسة، فلم يعد الجيش كما كان منذ تأسيس الدولة.
تقدم 5 جنرالات في مراكز قيادية بالجيش التركي في 25 أغسطس/آب الجاري بطلبات للإحالة إلى التقاعد المبكر، احتجاجاً على قرارات مجلس الشورى العسكري الذي عُقد برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان مطلع الشهر نفسه، وانتهى بإحالة معظم الضباط الذين تصدوا للانقلاب الفاشل في صيف 2016 إلى التقاعد، وتعيين آخرين من أهل الثقة، برغم عدم استيفائهم شروط الخبرة، والأقدمية، والكفاءة.
تراجع موقع وموضع المؤسسة العسكرية في تركيا في السنوات الأخيرة لمصلحة مؤسسة الرئاسة، فلم يعد الجيش كما كان منذ تأسيس الدولة التركية في عشرينيات القرن الماضي رافعة العلمانية الأساسية.
الجيش.. مكانة تاريخية
يعد العنصر العسكري بحسب باحثين اجتماعيين، ومؤرخين عنصرا متأصلا في الشخصية التركية منذ أيام قبائل التورك في سهوب آسيا الوسطي، ودور السلاجقة أيام الخلافة العباسية، مروراً بظهور الإمبراطورية العثمانية التي وصلت توسعتها العسكرية إلى أطراف مترامية من الكرة الأرضية.
وزادت خصوصية العنصر العسكري في تركيا مع تصاعد النزاعات، والحروب التي خاضتها الدولة العثمانية مع الدولة الصفوية في إيران، والمسيحيين في الغرب. كما حظيت المؤسسة العسكرية في تركيا بوضع استثنائي وخاص مع تأسيس الدولة التركية في العام 1923على يد الجنرال (مصطفى كمال) أتاتورك الذي برز على مسرح الأحداث مع تداعي الإمبراطورية العثمانية عشية الحرب العالمية الأولي، وقاد حرب المقاومة الوطنية في الفترة 1920-1922 التي حررت إسطنبول والأناضول، ثم تولى سدة الحكم، ليعلن في 1924 قيام الجمهورية التركية، وإسقاط الخلافة.
في المقابل مثلت المؤسسة العسكرية في تركيا نقطة استناد إستراتيجية، وكلمة مفتاحية في إدارة المشهد التركي لعقود طويلة، لاسيما بعد سن أتاتورك في 20 يوليو 1935 المادة 35 في قانون "الخدمة العسكرية"، والتي تنص على أن " وظيفة القوات المسلحة هي حماية الوطن ومبادئ الجمهورية التركية". وتطور دور الجيش في الحياة السياسية، وسيطر على كل مقاليد الدولة التركية، وبرز ذلك في الإطاحة بعدد واسع من الحكومات التركية في الأعوام 1960 و 1971 و 1980 ثم إقصاء حزب الرفاه ذي التوجه الإسلامي، وزعيمه نجم الدين أربكان في العام 1997.
العدالة والتنمية.. تهميش الجيش
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002، عمل على تهميش الجيش التركي تدريجياً، وإنهاء تدخله في السياسة، وكانت البداية في العام 2007 بتحريك قضية "أرجينيكون"، بموجبها تم إحالة مئات من القيادات العسكرية إلى القضاء، كما حكم على أكثر من 300 ضابط بالسجن في سبتمبر 2012 بتهمة التآمر للإطاحة بأردوغان في العام 2003، وفي يونيو 2014 صدر حكم قضائي بالحبس مدى الحياة ضد الجنرال كنعان أفرين البالغ من العمر 97 عاماً، والمسؤول عن انقلاب 1980.
لم تكن جهود العدالة والتنمية لتقف عند هذا المستوى، ففي العام 2013 وافق البرلمان التركي على تغيير المادة 35 من قانون الخدمة الداخلية للقوات المسلحة التركية، لتصبح صيغتها الجديدة، "مهمة القوات المسلحة تتمثّل في الدفاع عن الوطن والجمهورية التركية تجاه التهديدات والأخطار الخارجية، والسعي إلى الحفاظ على القوة العسكرية وتعزيزها، بحيث تشكل قوة رادعة للأعداء، والقيام بالمهمات الخارجية التي تسند إليها من قبل البرلمان التركي، والمساعدة على تأمين السلام العالمي".
ودخل المناخ مرحلة الشحن بين الجيش التركي، وحكومة العدالة والتنمية، بسبب قرار الأخيرة، فصل قوات الدرك عن الجيش، ونقل تبعيتها إلى وزارة الداخلية، وهي القوات المنوط بها مراقبة الحدود.. وأنشئت قوات الدرك في عام 1846، وتضم حوالي 276 ألف عنصر.
وجاءت الخطوة الأكثر إيلاماً للمؤسسة العسكرية عشية الانقلاب الفاشل في صيف 2016، الذي منح أردوغان فرصة استثنائية للسيطرة بشكل كامل على القوات المسلحة من خلال تحييدها أولا ومن ثمّ ضمان موالاة كبار ضباط الجيش له.
كما تمت الإطاحة بالآلاف من الجنود والضباط بتهمة الانضمام لحركة فتح الله غولن المتهم بتدبير الانقلاب فضلاً عن منح رئيس الجمهورية بدءاً من يوليو 2018، و بموجب التعديلات الدستورية التي حولت البلاد لجهة النظام الرئاسي في أبريل 2017، الحق في إقرار الترقيات والتعيينات في قيادة الجيش.
تجدر الإشارة إلى أن ترقيات الجيش، كانت تتم من قبل مجلس الشورى العسكري الأعلى برئاسة رئيس الوزراء قبل إلغاء منصبه بموجب النظام الرئاسي، ويصادق عليها فقط رئيس الجمهورية.
وسبق أن مرر أردوغان تعديلات على قانون الخدمة العسكرية الإلزامية في البرلمان، من شأنها أن تقلص عدد الجيش التركي بمقدار الثلث، وذلك بحجة الانتقال إلى تشكيل جيش احترافي، أقل كلفة وأقل عددا.
تداعيات ومخاطر
أدى تدخل الرئيس التركي في شؤون المؤسسة العسكرية وإحكام قبضته عليها إلى جملة من التداعيات والمخاطر على الجيش التركي، يمكن بيانها على النحو الآتي:
أدلجة الجيش التركي: مضت حكومة حزب العدالة والتنمية في سياستها لأسلمة الجيش، ومحاولة تطويعه لصالح التوجّهات الإسلامية، وإبعاده عن دوره كحامٍ للعلمانية، وكان بارزاً، هنا، رفع وزارة الدفاع التركية في 22 فبراير 2017 الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في صفوف المجندات في الجيش وطالبات المدارس العسكرية خلال القيام بمهامهن الوظيفية، كما ألغت السلطات في يناير 2017 قانون حظر ارتداء الحجاب للنساء العاملات في قيادتي خفر السواحل والدرك التابعتين لوزارة الداخلية.
ومع هيمنة العدالة والتنمية على مقاليد المشهد التركي رفضت المحكمة الإدارية العليا في ديسمبر 2018 طلب حزب "التحرير الشعبي" بتعليق قرار وزارة الدفاع الذي يسمح للعاملات في صفوف القوات المسلحة بارتداء الحجاب خلال أدائهن الخدمة العسكرية.
طمس هوية الجيش: حرص حزب العدالة والتنمية على تغيير الموروث الثقافي داخل الجيش، وطمس هويته، فتم السماح بدخول المحجبات من عائلات الجنود إلى دور ونوادي القوات المسلحة في علامة على التغيير الكبير في ثقافة وعقيدة الجيش التركي.
تراجع الثقة: أدى فصل الآلاف من عناصر القوات المسلحة بتهمة الانتماء إلى جماعة "غولن" إضافة إلى تطهير الجيش من الضباط العلمانيين المناهضين للأدلجة، وتهميش المؤسسة العسكرية إلى انهيار الشعور بالثقة القائم بين قطاعات واسعة من ضباط الجيش، ومؤسسة الرئاسة التي تسعى إلى خفض أعداد القوات المسلحة، ثم تشكيل فريق قيادة تحت سيطرة الرئيس أردوغان.
ونالت وحدات الجيش التركي الحصة الأكبر من الاعتقالات العشوائية بسبب اتهامها بالضلوع في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت وقائعها في يوليو 2016 والتي صارت ذريعة لأعمال انتقامية بحسب المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
تعزيز الانقسامات داخل الجيش: أدى الاعتماد المفرط للرئيس أردوغان على أهل الثقة إلى تعزيز مساحات التحيزات والانقسامات داخل الجيش التركي، وتبدو هذه المساحة مرشحة للزيادة بعدما طُمست هوية الجيش، وخلق ولاءات متعارضة داخل المؤسسة، وهو الأمر الذي يوفر بيئة حاضنة لـصراع داخلي محتمل، ربما يصعب السيطرة عليه، وقد يؤدى إلى تفكك الجيش، بل ربما انهيار الدولة.
جملة القول أن تراجع مكانة الجيش، والإصرار على تغيير هويته الثقافية والعقائدية يمثل تحدياً كبيراً ليس فقط على واقع ومستقبل المؤسسة العسكرية، وإنما على استقرار الدولة والمجتمع في تركيا، كما تبقى حجج أنصار "العدالة والتنمية"، بأن إضعاف دور الجيش في الحياة السياسية يعد تعزيزاً للديمقراطية التركية، مجرد محاولة لتبرير الممارسات السلطوية للعدالة والتنمية.
aXA6IDE4LjE5MC4xNjAuNiA=
جزيرة ام اند امز