حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هو مطلب كل الحكومات التركية المتعاقبة، إلا أن هذا المطلب يقابله رفض كبير من دول الاتحاد.
حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هو مطلب كل الحكومات التركية المتعاقبة، لما يترتب على ذلك من ازدهار اقتصادي وسياسي واستراتيجي حقيقي، الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، عبّر عن رغبة بلاده هذه قبل أيام مرة أخرى بقوله إنّ تركيا ما زالت ترغب في فتح صفحة جديدة مع أوروبا، وتسعى لتحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن هناك حقيقة أخرى تظهر إلى العلن وتترسّخ بشكل سريع، عدد الرسائل السياسية العلنية والمباشرة التي وجهتها القيادات الأوروبية إلى أنقرة في الآونة الأخيرة باستحالة قبول عضويتها تفوق العشرات، وهناك بالمقابل العشرات من القيادات السياسية التركية التي بدأت تردد أيضاً أنها ليست مغرمة بموضوع الالتحاق الكامل رغماً عن الأوروبيين، وأنها قادرة على إيجاد البديل الاستراتيجي في حال أُغلِقت الأبواب أمام تركيا.
التراجع عن هدف العضوية الأوروبية سيُعلن عاجلاً أو آجلاً في أنقرة، لكن ذلك لن يكون قبل 2019 وبعد الانتهاء من الاستحقاقات الانتخابية البرلمانية والرئاسية، تجنباً لأزمات داخل حزب العدالة والتنمية نفسه، ثم بينه وبين أحزاب المعارضة التي ستجير خطوة من هذا النوع إلى سلاح سياسي وانتخابي كبير ضد الحكومة
لماذا لا ينتهي حلم الزواج بالقوة بين أنقرة وبروكسل؛ رغم كل هذا الوضوح في المواقف والسياسات، ورغم أن الطرفين يعرفان أن خيط التواصل الرفيع والخيار الوحيد المتبقي بينهما هو الشراكة التجارية والاقتصادية، في إطار عقود وتفاهمات ثنائية تكاد تنهي مسار الوحدة الجمركية الذي انطلق قبل أكثر من 20 عاماً، ولم يخدم تركيا كثيراً لناحية عدم تنفيذ الكثير من موادّه وأهدافه، وعلى رأسها مطلب رفع التأشيرات عن الأتراك خلال الدخول إلى دول المجموعة الأوروبية؟
القيادات السياسية في الجانبين تعرف جيداً أن حكاية الغرام التي بدأت قبل 57 عاماً سائرة في طريق مسدود، وأنه لا يمكن الاستمرار باللعبة على هذا النحو دون أي تقدم يذكر، لكن لا أحد يريد تحمل مسؤولية إعلان فسخ الخطوبة حتى لا يتحمل تبعاتها السياسية والحزبية والشعبية..
في منتصف الثمانينيات بدأ الأتراك يسمعون بعرض "الشراكة بامتياز" بدلاً من العضوية الكاملة الذي اقترحته قيادات سياسية أوروبية على أنقرة في إطار صيغة تفاهم وتسوية منطقية واقعية، تضع حداً لعلاقة صعبة بدأت في أواخر الخمسينيات يعرف أبطالها أن نهايتها ستكون إما الانفصال أو القبول بتسوية خارج عقد الزواج، لكن أنقرة تمسكت بخيار العضوية الكاملة رغم استحالته وبعدما أصبح يضم اليوم العديد من خصومها، مثل اليونان وقبرص اليونانية وأعداء أوروبا الغربية نفسها، مثل دول شرقية بينها بلغاريا والمجر وجمهوريات تشيكوسلوفاكيا السابقة، تقدموا بطلباتهم بعد تركيا بعقود والتحقوا بالمجموعة الأوروبية قبل سنوات فيما تواصل المفوضية الأوروبية دراسة الطلب التركي .
البعض في تركيا لا يريد أن يتحمل مسؤولية الفشل في ملف استراتيجي هام، مثل إنهاء رغبة الأتراك بدخول العواصم الأوروبية دون تأشيرات، وتسهيل انتقال الأموال والسلع دون قيود، وإنهاء وعود نشر المعايير الأوروبية في قضايا الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، لكن الرسائل الواردة من القيادات الأوروبية في الأيام الأخيرة، وتوقعات المرحلة السياسية المقبلة في تركيا تعلن اقتراب نهاية الحلم، وأنه لن يكون سهلاً على أحد إخفاء هذه الحقائق بعد الآن:
- شرارة التوتر التركي الأوروبي الجديد أشعلها قرار البرلمان الأوروبي في أواخر العام 2016 بالدعوة لتجميد المفاوضات مع تركيا، احتجاجاً على السياسات الداخلية المعتمدة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، لكن أسباب التوتر سرعان ما تزايدت العام المنصرم خلال الحملات الانتخابية في أكثر من بلد أوروبي، وتصاعد اللغة السياسية الهجومية في الجانبين التي استفاد منها اليمين القومي الأوروبي المتشدد تماماً، كما استطاع حزب العدالة والتنمية تجيير هذا التوتر لصالحه خلال الاستفتاء على التعديل الدستوري في أبريل / نيسان/ 2016 الفائت.
- العرض الذي كرره الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال لقائه بنظيره التركي، رجب طيب أردوغان، في العاصمة الفرنسية قبل أسبوعين بقبول اقتراح الشراكة مع أوروبا بدلاً من التريث أكثر من أجل العضوية المستحيلة، لكن الموجع هنا هو أن العرض الفرنسي هذا يرتبط بشروط ومعايير أخرى تلزم تركيا بقبولها قبل هذه التفاهمات أيضاً.
- إعلان المستشار النمساوي، كريستيان كيرن، أنه على الاتحاد الأوروبي مواجهة الواقع ودعوته لإبلاغ أنقرة أن مفاوضات الانضمام باتت ضرباً من الخيال، لأن المعايير الديمقراطية التركية بعيدة من أن تكون كافية لانضمام أنقرة إلى الاتحاد، وعرض المفوض الأوروبي المُكلّف بمفاوضات التوسعة، يوهانس هان، على تركيا إقامة شراكة استراتيجية بدل العضوية التامة يعكس حقيقة أن الاتحاد الأوروبي لا يريد التخلي عن الورقة التركية الشرق أوسطية المهمة في علاقاته بأميركا وروسيا، وهو يريد أن تكون إلى جانبه بدل أن تكون في مواجهته، لكنه لا يريد أن يكون ثمن ذلك العضوية الكاملة، وهذا ما قاله الرئيس الفرنسي أمام أردوغان عندما قال إن "التطورات الأخيرة في تركيا لم تسمح بأي تقدم في عملية انضمامها للاتحاد الأوروبي المستمرة منذ عقود"، ودعا للخروج "من نفاق يتضمن الاعتقاد بأن تقدماً طبيعياً لفتح فصول جديدة في المفاوضات هو أمر ممكن".
- إدراك قيادة العدالة والتنمية أن أوروبا حسمت موقفها، وأن لا حظوظ لها بعد الآن وحتى عقود طويلة أخرى بدخول الاتحاد، لكنها لن تصارح الشعب التركي بهذه الحقيقة التي يعرفها هو أيضاً وسط ملفات التوتر والتأزم هذه بعد تغيرات المشهد في الداخل التركي منذ 15 يوليو / تموز 2016 تاريخ المحاولة الانقلابية وحتى اليوم.
- التراجع عن هدف العضوية الأوروبية سيُعلن عاجلاً أو آجلاً في أنقرة، لكن ذلك لن يكون قبل عام 2019 وبعد الانتهاء من الاستحقاقات الانتخابية البرلمانية والرئاسية تجنباً لأزمات داخل حزب العدالة والتنمية نفسه ثم بينه وبين أحزاب المعارضة التي ستجير خطوة من هذا النوع إلى سلاح سياسي وانتخابي كبير ضد الحكومة.
- خطط إعادة التموضع التركي الإقليمي التي تنقل النفوذ والأهداف والتطلعات التركية من القارة الأوروبية إلى القارتين الآسيوية والأفريقية مؤخراً بعد انسداد الأبواب في بروكسل، تركيا تتطلع صوب روسيا وإيران والصين ودول أفريقية عديدة تعوضها عن العضوية الأوروبية بين البدائل في خياراتها الجيو استراتيجية الجديدة.
- محاولة الحكومة التركية سد الفراغ الاستراتيجي بعد تراجع حلم الالتحاق بالمجموعة الأوروبية، بتوقيع عقود تجارية واتفاقيات سياسية وأمنية ثنائية مشتركة مع الدول الأوروبية، تعوض هذه الخسارة أمام الرأي العام التركي، تحركات تعزيز العلاقات مع فرنسا وألمانيا وإنجلترا تندرج في هذا الإطار خصوصاً مع ألمانيا شريكها التجاري الأول في أوروبا لناحية حماية التبادل التجاري، ورفع حظر تصدير السلاح الألماني الذي ما زالت تحتاجه تركيا في الصناعات الدفاعية، وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو قال بعد لقائه الأخير بنظيره الألماني "نختلف مع برلين بخصوص عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، ولكن يمكننا تحسين العلاقات الاقتصادية، لسنا ملزمين بأن نتوافق في كافة القضايا".
- تركيا تقول إن الأسباب الحقيقية لعدم الرغبة في قبولها أوروبياً هي دينية وعرقية وسكانية بالدرجة الأولى، حيث سينضم ثمانون مليون مسلم تركي إلى ملايين المسلمين في المجموعة الأوروبية؛ ليشكلوا قوة تأثير شعبية ودينية في قرارات الاتحاد، لكن هناك حقيقة أخرى لا يمكن تجاهلها حسب استطلاعات الرأي التركية، وهي أن أكثر من ثلثي الأتراك أيضاً لا يثقون بحظوظهم في الالتحاق بالنادي الأوروبي.
يكاد البعض في تركيا أن يقول لنا بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة إلى باريس، وزيارة مماثلة قام بها وزير الخارجية التركية مولود شاووش أوغلو إلى ألمانيا، إن التقارب والحوار التركي الأوروبي بات ممكناً من جديد، هي محاولة حوار تركي فرنسي وتركي ألماني لا أكثر نتائجها جاءت مبكرة جداً من خلال ما قاله أردوغان"طبعاً هذا يتعبنا بشكل جدي، ويتعب شعبنا، وربما سيدفعنا إلى اتخاذ قرار، لن نقول باستمرار من فضلكم امنحونا العضوية، أقول ذلك من فرنسا". وردّ ماكرون عليه دون تردد حول ضرورة بحث البدائل في العلاقات التركية الأوروبية.
لكن الصدمة الأكبر تأتي من برلين نفسها، للمرة الأولى تتفق 3 أحزاب ألمانية تريد تشكيل حكومة ائتلافية على إدراج مادة في بروتوكول الشراكة تعني دولة ثالثة وهي تركيا، الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي البافاري والحزب الاشتراكي الديمقراطي قرروا إدراج مادة مطولة تتعلق بالعلاقات التركية الأوروبية وليس التركية الألمانية، في تحد واضح لأنقرة وبعد أيام فقط على عودة الوزير شاووش أوغلو متفائلاً من برلين، إذا ما تم تنفيذ المتفق عليه ألمانياً فهذه المادة تنص على عدم الاستجابة للمطالب التركية بتوسيع نطاق أو تجديد اتفاقية الاتحاد الجمركي الموقعة عام 1996، وعدم إلغاء شروط التأشيرات قبل أن تقوم أنقرة بتنفيذ المعايير السياسية والتقنية المطلوبة منها، وكذلك المطالبة الألمانية بتجميد المفاوضات التركية الأوروبية على حالها لناحية عدم إغلاق أي فصل أو فتح فصل جديد في مسار العضوية، بسبب الوضع التركي الداخلي المتدهور في مسائل الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، كما تقول المادة، إذا ما تم تثبيت هذه المادة في بروتوكول الائتلاف الحكومي الألماني فهي ستعني الانفجار الأكبر ليس في مسار العلاقات التركية الألمانية وحدها؛ بل في مسار ومستقبل العلاقات التركية الأوروبية نفسها، يبدو أن القيادات السياسية الأوروبية تريد أن تكون حاضرة خلال نقاش أكثر من ملف يتعلق بتركيا في المرحلة المقبلة تحت غطاء "الشراكة بامتياز" أيضاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة