التصعيد التركي في شرق المتوسط.. أهداف متعددة وفرص محدودة
برغم محاولات تركيا السيطرة بشكل غير قانوني على جزء من مقدرات الطاقة في مكامن المتوسط، إلا أنها لن تستطيع تحقيق أطماعها.
يثير تصعيد تركيا لأزمة التنقيب عن موارد الطاقة في شرق البحر المتوسط الكثير من علامات الاستفهام حول الأهداف التركية في هذه المنطقة، ومحاولتها البحث عن موطئ قدم للهيمنة على الغاز في شرق المتوسط، في ظل سعي أنقرة إلى عسكرة الأزمة عبر مناورات أو تحرشات عسكرية بجيرانها.
وتصر تركيا على مباشرة عمليات التنقيب عن النفط والغاز قبالة شواطئها، أو في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص من دون اتفاقات قانونية لتعيين حدودها البحرية، وتحديد مناطقها الاقتصادية الخالصة.
وفي هذا السياق، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمة له بولاية طرابزون شمالي البلاد في 25 أغسطس/آب الجاري، أن بلاده لن تعبأ بأي تحذيرات أو تهديدات من الاتحاد الأوروبي، مؤكدا مواصلة عمليات الحفر للحفاظ على ما أسماه حقوق تركيا، والقبارصة الأتراك.
وقد تصاعدت حدة التوترات بين تركيا ودول شرق المتوسط، بسبب الاكتشافات الغازية، والتي قدرتها دراسة صادرة عن هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية في 2010 حجم احتياطي الغاز في حوض شرق البحر المتوسط، بنحو 345 تريليون قدم مكعب من الغاز، ويحتوي هذا الحوض أيضا على كميات ضخمة من الاحتياطيات النفطية تبلغ 3,4 مليار برميل من النفط، إلى جانب كميات كبيرة أيضا من سوائل الغازات .
أهداف متعددة
كثيرة هي الأسباب التي دفعت تركيا إلى السعي للهيمنة على الغاز في شرق المتوسط قبالة السواحل القبرصية، وتعزيز نفوذها في المنطقة، وتحصيل أكبر قدر ممكن من المكاسب، وذلك بالتزامن مع لهجة التصعيد تجاه القبارصة اليونانيين، وتتمثل هذه الأسباب في:
تعويض فقر الطاقة: تفتقر تركيا إلى مصادر الطاقة التي تتعاظم حاجتها إليها في ظل تنامي الطلب عليها في الداخل، وتعد تركيا من أفقر الدول في العالم في موارد الطاقة، إذ تستورد ٧٩٪ من مصادر الطاقة وأكثر من ٩٢٪ من النفط و99٪ من الغاز.
وتعتمد تركيا بشكل رئيسي على الاستيراد من روسيا والعراق وإيران، غير أنها تعرضت لأزمة كبيرة بشأن تلبية احتياجاتها من الطاقة، بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة على النظام الإيراني، والتي تتضمن حظرا على استيراد النفط الإيراني، وتستورد تركيا نحو ٢٧٪من مصادر الطاقة من طهران.
مركز لإنتاج وبيع الطاقة
تسعى تركيا إلى أن تتحول لمركز نقل للطاقة، من خلال مضيق البوسفور، وهو أحد الممرات الرئيسية لنقل النفط عبر العالم، حيث ينقل قرابة 2,9 مليون برميل يوميًّا إلى بحر قزوين ثم إلى أوروبا، إضافة إلى "السيل التركي" الذي يهدف لنقل الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر تركيا، فضلاً عن قيام أنقرة ببناء وتطوير خطوط نقل الطاقة من إيران وأذربيجان وقبرص وإسرائيل إلى أوروبا.
في هذا السياق، فإن تركيا ترغب بتعزيز مكانتها كمركز عالمي لنقل الطاقة من خلال سيطرتها على الغاز الذي يحيط بالجزيرة القبرصية. وفي هذا السياق، بدأت تركيا في توسيع نفوذها في البحر الأحمر عبر محطة السودان، ناهيك عن الانخراط في الأزمة السورية، والليبية، وذلك في إطار سعي أنقرة لمد وتوسيع نطاق نفوذها في نقل الطاقة بالشرق الأوسط.
الضغط على دول الجوار
يعد التوتر هو العنوان الأبرز في علاقة تركيا بالكثير من دول إقليم شرق المتوسط كاليونان وقبرص وإسرائيل، ثم مصر، وهو التوتر الذي اشتدت وطأته بعد اكتشاف آبار النفط والغاز في الإقليم قبل سنوات قليلة مضت، وشروع هذه الدول في ترسيم حدودها البحرية على أساس قانون البحار لعام 1982، وهو ما ترفضه أنقرة، وتصر على اعتماد تفسير مشوش للقانون الدولي البحري، مدعية أنه يمنحها جرفاً قارياً، ومنطقة اقتصادية يمتدان لمسافة 200 ميل بحري، فيما يقلص امتداد المياه الإقليمية لقبرص إلى 14 ميلاً بحرياً فقط، بما يحرمها من جرف قاري أو منطقة اقتصادية خالصة.
تقليص الطموح المصري: تسعى تركيا بشكل مباشر من وراء معركة التنقيب عن الغاز شرق المتوسط التي بدأتها قبل نحو عامين، إلى إفشال طموح القاهرة في التحول إلى مركز لنقل الطاقة. فثمة بيئة مواتية تسهم في تحويل مصر إلى مركز إقليمي لتجارة وتداول الغاز والبترول، وذلك من خلال إنتاج هذه الطاقة من حقول مصر في شرق المتوسط أو عبر استيرادها من إسرائيل واليونان وقبرص، ونقلها إلى الأسواق الدولية.. وهو ما عبّر عنه تقرير صادر عن البرلمان الأوروبي في عام 2017: "يبدو أن مصر تمتلك مفتاح مستقبل غاز شرق المتوسط".
الأزمة الاقتصادية: تستهدف تركيا من وراء عمليات التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، التحايل على الأزمة الاقتصادية التي تعانيها، وعلى رأسها ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.. كما تعاني تركيا من تصاعد معدل التضخم ليصل إلى نحو ١٩.٥٪ بعد أن فقدت الليرة أكثر من ثلث قيمتها أمام الدولار، ناهيك عن تراجع الاحتياطي النقدي، فبحسب تقرير البنك المركزي التركي في 16 أغسطس/آب الجاري، تراجع الاحتياطي النقدي بالدولار من 77,4 مليار دولار مقارنة بــ 79,2 مليار دولار قبل هذا التاريخ بنحو أسبوع.
ذرائع واهية
تستند تركيا إلى أدوات ملتوية بجوار القوة الصلبة لتمرير عمليات التنقيب عن مصادر الطاقة في شرق المتوسط.. وتتحرك تركيا في هذا النطاق مدفوعة بذرائع واهية، تحاول الترويج لها بأدوات صلبة، يمكن بيانها كالآتي:
موافقة قبرص الشمالية: تستند أنقرة في عملياتها غير القانونية في منطقة شرق المتوسط على موافقة قبرص الشمالية على منح تركيا ترخيصا بالحفر قبالة سواحلها، في حين أن لا أحد يعترف بقبرص الشمالية سوى تركيا.
الطعن على الاتفاقيات القانونية الموقعة لترسيم الحدود البحرية بين دول شرق المتوسط: حيث تطعن تركيا على اتفاقيات ترسيم الحدود بين دول حوض المتوسط، وفي الصدارة منها اتفاقية الحدود البحرية المُوقَّعة بين مصر وقبرص في العام 2013، مدعية أنها غير قانونية، وتنتهك الجرف القاري التركي. كما ترفض تركيا اتفاقية تقسيم الحدود البحرية بين قبرص وإسرائيل في عام 2010، وقد رأت أن هذه الاتفاقيات تتجاهل السيادة التركية على شمال الجزيرة.
عسكرة الأزمة: تلجأ تركيا إلى التهديد العسكري، وكان بارزاً هنا، إقدام البحرية التركية في فبراير/شباط 2018، على اعتراض سفينة تنقيب عن الغاز تابعة لشركة إيني الإيطالية في المياه القبرصية. وفي فبراير 2018 قامت أنقرة باستعراض قوتها العسكرية. وفي مايو/أيار 2019 بدأت تركيا بتنفيذ مناورة "ذئب البحر-2019"، التي تعتبر المناورة البحرية الأكبر في تاريخها. وقد انطلقت هذه المناورة العسكرية في نفس الوقت في كل من البحر الأسود وبحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط.
في سياق متصل تطلق تركيا بين الحين والآخر تهديدات بتحويل منطقة شرق المتوسط إلى مسرح لأنشطة عسكرية استعراضية لقواتها البحرية والجوية، وتجلى ذلك في انتهاك مقاتلات أنقرة وسفنها الحربية المجالات الجوية والبحرية لدول مثل اليونان وقبرص على نحو متكرر.
تشكيل تحالفات جديدة: تسعى تركيا لإنشاء تحالفات جديدة تضم الأطراف التي لم تنخرط في أي تحالفات واضحة حتى الآن مثل لبنان وسوريا وليبيا لتحقيق هدفين، الأول هو تغطية الطلب المحلي من الطاقة من خلال الاستحواذ على جزء من حصص هذه الدول، والثاني الحصول على امتياز من هذه الدول بحق توريد مستخرجاتها من الطاقة إلى السوق العالمي عبر خطوط أنابيب تمر عبر تركيا.
فرص محدودة
ثمة مؤشرات كاشفة عن تراجع فرص نجاح تركيا في تحقيق أطماعها في منطقة المتوسط؛ أولها رفض القوى الدولية للسلوك التركي في منطقة المتوسط، فبينما اعتبرت واشنطن أعمال التنقيب التركي تمثل خرقاً لقواعد القانون الدولي، أكد الاتحاد الأوروبي التأثير السلبي الخطير للأعمال غير القانونية التي تقوم بها تركيا في البحر الأبيض المتوسط على العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي.
وبسبب استمرارها في عمليات التنقيب عن الغاز قبالة قبرص شرق البحر المتوسط، أقر الاتحاد الأوروبي في يوليو/تموز الماضي عقوبات على تركيا، منها تعليق المفاوضات حول اتفاق النقل الجوي الشامل مع تركيا ووقف اجتماعات مجلس الشراكة والاجتماعات رفيعة المستوى مع تركيا في الوقت الحالي.. كما وافق على اقتراح المفوضية بتخفيض مساعدات تركيا قبل الانضمام لعام 2020، ودعا بنك الاستثمار الأوروبي إلى مراجعة أنشطة الإقراض في تركيا.
ولم يختلف الأمر في موسكو، رغم ما بين أنقرة وموسكو من تقارب استراتيجي في أزمات الإقليم بجوار تسريع وتيرة التعاون العسكري، إذ شددت موسكو على ضرورة أن يكون أي نشاط اقتصادي متوافقاً مع قواعد القانون الدولي، والإحجام عن اتخاذ الإجراءات التي يمكن أن تسبب التوتر.
وثانيها نجاح معظم دول المتوسط في تأسيس "منتدى غاز المتوسط" في فبراير 2019، وهو نظام قانوني معترف به دولياً، ومنوط به تنظيم الإفادة من ثروات المنطقة، وتقنين عمليات التنقيب عن مكامن الطاقة. ويضم المنتدى الذي يتخذ من القاهرة مقراً رئيساً له، 7 دول هي: مصر، وإيطاليا، واليونان، وقبرص، والأردن، وإسرائيل، وفلسطين، على أن تكون العضوية مفتوحة لمن يرغب بذلك.
وتمعن تركيا منذ انطلاق فكرة المنتدى في التعبير عن امتعاضها، ورفضها للمشروع معلنة أنه لن يكتمل من دون انضمام تركيا إليه.. غير أن دول المنتدى تستبعد كليا فكرة دعوة تركيا للانضمام إليه على الأقل في الوقت الراهن، بالنظر إلى أن الدول المؤسسة قاطبة لديها خلافات متفاوتة مع تركيا، وبعضها خلافات عميقة يصعب إصلاحها أو التحايل عليها.
ويرتبط المؤشر الثالث بنجاح مصر واليونان وقبرص وإسرائيل في التوافق على سلسلة من المشاريع الطموحة، تستهدف نقل الغاز من هذه الدول إلى القاهرة حيث محطات الإسالة في إدكو ودمياط، ثم تصديرها إلى أوروبا.
خلاصة القول: برغم محاولات تركيا السيطرة بشكل غير قانوني على جزء من مقدرات الطاقة في مكامن المتوسط، والتلويح باستخدام قوة عسكرية، فإنها لن تستطيع تحقيق أطماعها في ظل جبهة دولية وإقليمية ممانعة لها، إضافة إلى أزمة اقتصادية لم تفلح حتى الآن في تسكين أوجاعها، ولذلك لا يبقى لتركيا سوى اعتماد المسارات القانونية إذا أرادت الاستفادة من ثروات شرق المتوسط، والكف عن محاولات إزعاج مصالح جيرانها في حوض المتوسط.
aXA6IDMuMTQzLjIzNS4xMDQg جزيرة ام اند امز