حتى الآن تُجمع معظم شركات استطلاع الرأي المستقلة في تركيا على أن الرئيس رجب طيب أردوغان لن يكون قادرا على حسم الانتخابات
حتى الآن تُجمع معظم شركات استطلاع الرأي المستقلة في تركيا على أن الرئيس رجب طيب أردوغان لن يكون قادرا على حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، وسيضطر لخوض جولة ثانية مع أحد المرشحين المعارضين. كما تشير استطلاعات هذه الشركات إلى أنه في حال استطاع الأكراد الحصول على نفس نسبة أصواتهم في الانتخابات الماضية وتجاوزا حاجز العشرة بالمئة، فإن الحزب الحاكم سيفقد الغالبية في البرلمان. شركة وحيدة فقط هي التي تتحدث عن أن الرئيس أردوغان سيحسم من الجولة الأولى بنسبة أصوات تصل إلى 60% وهي شركة Arge الموالية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، وهي نفس الشركة التي توقعت أن يمر الاستفتاء على النظام الرئاسي في أبريل العام الماضي بموافقة تصل إلى 60% - نفس النسبة – بينما كانت نتيجة مروره بنسبة 51.5% فقط مع تأكيد المعارضة على أن تزويرا حصل في نتائج ذلك الاستفتاء وأن النتيجة الحقيقية كانت رفض 52% من الناخبين لهذا النظام.
إصرار الشركة الموالية للحكومة على القول إن نتيجة الانتخابات الرئاسية محسومة لصالح الرئيس أردوغان يثير شكوكا لدى المعارضة بأن هذا الأمر ما هو إلا تمهيد لحصول عمليات تزوير واسعة في نتائج الانتخابات. فمن المثير والغريب أن الحزب الحاكم يصدق استطلاعات الرأي للشركات المستقلة فيما يتعلق بالانتخابات البرلمانية واحتمال خسارته للغالبية البرلمانية، لدرجة أن الرئيس أردوغان أعلن وجود خطة بديلة في حال حصول هذا الأمر، والتحضير لسيناريو انتخابات مبكرة جديدة في حال فاز أردوغان بالرئاسة وخسر الغالبية في البرلمان، فيما لا تعير الحكومة استطلاعات تلك الشركات المستقلة حول انتخابات الرئاسة أي انتباه أو مصداقية.
الناخب التركي أمام أحد خيارين في الانتخابات القادمة، فإما أن يختار الرئيس أردوغان ويبدأ معه رحلة تحوّل كبيرة لصورة تركيا وتوجهها على جميع الأصعدة في مغامرة غير محسوبة ولا يبدو مستقبلها واضحا، وإما أن يختار التغيير من أجل العودة بتركيا إلى صورتها السابقة الأقرب سياسيا إلى الغرب والنظام المالي الدولي
هنا تجدر الإشارة إلى استطلاع شركة KONDA المستقلة والعريقة في مجالها، حول تشريح هوية الناخب الذي يصوت للرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، فقد اشارت دراسة حديثة لهذه الشركة، إلى أن 36% من الذين أكدوا أنهم سيصوتون للحكومة والرئيس الحاليين لا يستخدمون الإنترنت، أي أنهم معزولون عن الحضارة الرقمية. وأن 60% من هؤلاء، لا يعيرون أي انتباه لاستقلال القضاء أو حرية التعبير والإعلام. وهذا تحول كبير وخطير في نوعية الناخب الذي يصوت للرئيس أردوغان وحزبه الذي خرج إلى فضاء السياسة عام 2000 واضعا حرية التعبير واستقلال القضاء والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على قائمة أولوياته. تحول أسهمت في تشكيله سياسات الرئيس أردوغان في السنوات الخمس الأخيرة، التي قامت على العداء للغرب والاتحاد الأوروبي، والترويج لفكرة المؤامرة الخارجية التي تستخدم الإعلام وحرية التعبير "لتقسيم تركيا وإثارة الفوضى فيها" والترويج لفكرة إحياء العثمانية من جديد وتشبيه تركيا الحالية بالدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى التي انتهت بتقسيم أراضي الدولة العثمانية واحتلالها على يد الحلفاء.
ويشبه البعض في تركيا هذا التحول المجتمعي بما حدث في إيران سابقا بعد ثورة الخميني، وبأنه يخدم المشروع الأيديولوجي للرئيس أردوغان الذي يهدف إلى تحويل تركيا وتغيير توجهاتها السياسية والأيديولوجية بحلول عام 2023 – مئوية إنشاء الجمهورية التركية الحديثة – إلى بلد شرق أوسطي، ينسلخ عن عمقه الأوروبي، ويقترب أكثر إلى المعسكر الشرقي -إيران وروسيا وآسيا– وما يحمله هذا المعسكر من مفاهيم عن الديمقراطية وحرية التعبير واستقلال القضاء.
وبشكل موازٍ، تواجه تركيا أزمة اقتصادية خانقة، حذر منها وتنبأ بها العديد من خبراء الاقتصاد الأتراك والغربيين، وكذلك المعارضة، بسبب سياسة الرئيس أردوغان التبذيرية، ومحاباة رجال الأعمال الموالين له على غيرهم، والتركيز في النمو على مشاريع الإنشاءات الضخمة بدلا من المشاريع الصناعية والتكنولوجية، ناهيك عن عناده المستمر منذ عامين مع البنك المركزي ورفضه إعطاء هذا البنك الاستقلال الذي يؤمن للبنك قوته ويزرع الثقة لدى المستثمرين الأجانب.
ولا يخفى على المتابعين السجالات المتكررة بين الرئيس أردوغان ووزير المالية محمد شيمشيك الذي حاول مرارا وبشكل خجول التنبيه إلى خطورة سياسات أردوغان الاقتصادية، وتدخلاته في سياسة البنك المركزي وآثار ذلك على الاقتصاد وثقة المستثمرين.
وقد اعترف الرئيس أردوغان قبل شهر بأنه اضطر لتقديم موعد الانتخابات من أجل التصدي، كما قال، لزلزال اقتصادي قادم، فالاقتصاد التركي نما خلال العقد الأخير معتمدا -مثل بقية الدول النامية – على وفرة السيولة الدولية التي كانت تبحث عن استثمارات في جميع أنحاء العالم، في ظل مرور الاقتصاد الأمريكي بمرحلة صعبة بعد أزمة عام 2008، حيث كان البنك الفدرالي الأمريكي قد خفض سعر الفائدة إلى الصفر. لكن ومنذ عام تقريبا، تغيّر الوضع الاقتصادي العالمي، وتعافى الاقتصاد الأمريكي وبدأ البنك الفدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة، ما دفع السيولة العالمية للانسحاب تدريجيا من الأسواق العالمية.
وقد حذر العديد من الخبراء في تركيا من آثار هذا التغير على الاقتصاد التركي، وطالبوا بإصلاحات اقتصادية وسياسية كبيرة في تركيا من أجل مواجهة هذا التغيير الكبير. كما أن سيطرة الرئيس أردوغان على مؤسسة القضاء – التي زادت بشكل كبير بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة العام الماضي – ووضع الحكومة يدها على المئات من الشركات والمشاريع الخاصة بحجة أنها تتبع جماعة فتح الله جولن، دفع المستثمرين الأجانب إلى الخوف على استثماراتهم في تركيا، وبدأوا بسحبها تدريجيا، ما انعكس سلبا على سعر الليرة التركية تدريجيا. ومع كل محاولة من البنك المركزي التركي للتصدي للتغيير الحاصل من خلال رفع سعر الفائدة ولو بربع درجة، كان الرئيس أردوغان يغضب ويحاول عرقلة هذه الخطوة، إلا أن تدهور الوضع خلال الشهر الحالي، دفع البنك المركزي لرفع سعر الفائدة 3 درجات مرة واحدة، لوقف النزيف الحاصل في سعر الليرة، وهي خطوة لم تتم إلا بعد محاولات جهيدة وكبيرة من رئيس الوزراء بن علي يلدرم لإقناع أردوغان بالموافقة عليها.
وقد فاقمت من الأزمة تصريحات الرئيس أردوغان الأسبوع الماضي خلال زيارته إلى لندن ولقائه بقناة بلومبيرج الاقتصادية، حيث أعلن أنه في حال فوزه في الانتخابات فإنه سيزيد من سيطرته على المؤسسات الاقتصادية ومن بينها البنك المركزي، ووعد بوضع نظام اقتصادي جديد لتسعير الليرة التركية.. هذا التصريح أفزع المستثمرين الأجانب، لأنه يعني نهاية نظام الاقتصاد الحر الذي تبنته تركيا على مدى العقدين الماضيين وإحلال نظام مالي جديد يخضع لإرادة الحكومة. هنا بدأ سعر الدولار بالقفز بشكل كبير مقابل الليرة التركية.
هذه التطورات تشير إلى أن الرئيس أردوغان الذي سعى لإقرار نظام رئاسي فريد من نوعه، لا يهدف إلى السيطرة على جميع مؤسسات الدولة بما فيها القضاء والإعلام فحسب، وإنما يسعى للسيطرة أيضا على النظام الاقتصادي وفق أيديولوجية يراها هو أفضل لتركيا. ويسير ذلك مع التحول المجتمعي المذكور في بداية هذا المقال، من أجل ظهور دولة تركية جديدة كليا بحلول عام 2023، مختلفة في مزاجها وتوجهها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
هنا يبدو الناخب التركي أمام أحد خيارين في الانتخابات القادمة، فإما أن يختار الرئيس أردوغان ويبدأ معه رحلة تحوّل كبيرة لصورة تركيا وتوجهها على جميع الأصعدة في مغامرة غير محسوبة ولا يبدو مستقبلها واضحا، وإما أن يختار التغيير من أجل العودة بتركيا إلى صورتها السابقة الأقرب سياسيا إلى الغرب والنظام المالي الدولي الحر والشفافية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة