مشكلة أنقرة هي إذًا حديث الدياسبورا الأرمنية عن سقوط مليون ونصف المليون من الأرمن ضحايا الحوادث
أعلنت قيادات الدياسبورا الأرمنية في العالم أنها ربحت جولة جديدة من المواجهة مع تركيا، بعدما قرر البرلمان الهولندي الالتحاق بأكثر من 20 دولة تبنت أحداث عام 1915 التي وقعت في شرق الأناضول على أنها حرب إبادة ضد الأرمن أودت بحياة عشرات الآلاف هناك.
قرار البرلمان الهولندي كان له وقع الصاعقة في تركيا، لا سيما وأن أنقرة وأمستردام كانتا تحاولان إجراء مفاوضات لحل خلافاتهما. وكونه أيضا يأتي في الوقت الذي تراجعت فيه العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوى لها، بعد إعلان هولندا في الخامس من فبراير (شباط) الجاري سحب سفيرها من أنقرة، ورفضها استقبال ممثل دبلوماسي لتركيا على أراضيها؛ ردا على القرار التركي المتخذ العام المنصرم بإغلاق السفارة في أمستردام، والإعلان عن عدم رغبتها في عودة السفير الهولندي إلى تركيا.
القرار الهولندي يعكس مرة أخرى حقيقة وجود رغبة أوروبية مشتركة بضرورة تسوية الموضوع الأرمني بين أنقرة ويريفان قبل قبول تركيا في العضوية الكاملة للمجموعة. لكنه أيضا يحرك الرماد، ليس تحت بؤر التوتر في العلاقات التركية الهولندية وحسب، بل فوق نار العلاقات التركية الأرمنية التي يحاول الأتراك إخمادها.
الخلاف التركي الهولندي الذي انفجر في فبراير العام 2017 بيْن أسبابه الكثيرة منح هولندا حق اللجوء للعشرات من أنصار جماعة كولن، الذين تتهمهم أنقرة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها البلاد في منتصف يوليو (تموز) 2016، ثم توسع وتحول إلى أزمة دبلوماسية سياسية غير مسبوقة بين البلدين في شهر مارس (آذار) من العام نفسه، عندما أبعدت هولندا وزيرة الأسرة والسياسات الاجتماعية التركية فاطمة بتول صيان كايا، بعد ساعات من رفضها السماح لطائرة وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو بالهبوط في أراضيها، للمشاركة في تجمع للأتراك في روتردام يتعلق بالاستفتاء على تعديل الدستور الذي أجري في تركيا في 16 أبريل (نيسان) العام الماضي؛ للانتقال إلى النظام الرئاسي. وحجة الحكومة الهولندية هنا كانت دائما رفض إقحام الجالية التركية عندها والداخل الهولندي في نقاشات سياسية تتعلق مباشرة بالشأن التركي.
الحكومة التركية التي كانت تنتظر اعتذارا رسميا على التوتر التركي الهولندي الأخير الذي وقع العام المنصرم، فوجئت بقرار البرلمان وهو يفجر قنبلة سياسية من العيار الثقيل، معلنا استمرار المواجهة والتصعيد مع أنقرة حتى ولو كان الثمن تجميد العلاقات الدبلوماسية وتراجع العلاقات الاقتصادية والأمنية.
أمستردام تتجاهل شراكتها مع أنقرة تحت سقف حلف شمال الأطلسي، وتلوح بأنها قادرة على عرقلة الحلم التركي بالعضوية الأوروبية وحرمان تركيا من آلاف السياح الوافدين إلى مدنها الساحلية كل عام، إذا ما رغبت في مواصلة التصعيد.
لكن أنقرة لم تتراجع هي الأخرى عن قبول التحدي الهولندي هذا مهما كان الثمن، وهو ما دفع وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو للقول: إن قرار البرلمان الهولندي الاعتراف بالمزاعم الأرمنية حول أحداث 1915 على أنها «إبادة» ليس له أي صفة إلزامية، لافتا إلى أن كلمة «إبادة» هي تعبير قانوني وليس سياسيا تتلاعب به الدول كما تشاء، واستحالة إطلاق هذا التوصيف على تلك الأحداث، بل هي "مأساة" لكلا الطرفين.
حقيقة أولى لا يمكن تجاهلها وهي أن قرار البرلمان الهولندي حول أحداث عام 1915 الأرمنية لا يمكن فصله عن موقف الحكومة التي تحاول تهدئة أنقرة بأن هذا القرار غير ملزم، وأنها تتبنى فقط ما تقوله المحاكم الدولية بهذا الخصوص. فالأحزاب الهولندية الأربعة الرئيسية التي تشكل الحكومة والمعارضة هناك هي التي توحدت وراء هذا الموقف السياسي، وأن القرار الآخر الصادر حول ضرورة التمثيل الحكومي الهولندي في مناسبات ذكرى أبريل/نيسان العالمية التي تنظم سنويا في العاصمة الأرمنية، تأكيد للموقف الهولندي بهذا الخصوص.
النقطة اللافتة الثانية كانت الإجماع الكبير على الاصطفاف وراء هذا القرار تحت سقف البرلمان، حيث صوّت 142 نائبا لصالحه فيما عارضه 3 نواب فقط. أما النقطة الثالثة والمهمة أيضا هي وقوف 5 نواب هولنديين من أصل تركي إلى جانب القرار، وهو ما أغضب الإعلام والشارع التركييْن اللذين اتهماهم بالعمالة والخيانة.
اللوبي الأرمني يقول منذ عشرات السنين إنه لن يتخلى عن قضيته مهما طال الزمن والانتظار، وإن هدفه هو كسب المعركة في المحافل الدولية لإلزام أنقرة بأربعة مطالب أساسية هي: الاعتراف بما جرى عام 1915 على أنه عمليات تصفيات جماعية للأرمن والاعتذار الرسمي، وقبول دفع التعويضات المادية، وإعادة الممتلكات في شرق الأناضول لأصحابها، وأنه من أجل تحقيق ذلك يجيش الآلاف من الشباب الأرمني في دول العالم للدفاع عن القضية الأرمنية وعدم نسيانها حتى ولو مضى أكثر من قرن عليها.
لذلك نرى أن تركيا تدرك جيدا أن الملف الأرمني سيكون حاضرا في أكثر من نقاش لها مع العواصم الغربية، وتحديدا في موضوع علاقاتها بدول الاتحاد الأوروبي وطلب العضوية التركية الكاملة في الاتحاد. وتعرف أيضا أن الولايات المتحدة حليفها الاستراتيجي التي تتردد في الانضمام إلى لوائح المتبنين لمقولة الإبادة، قد تبدل من موقفها في كل لحظة، خصوصا بعد التوتر التركي الأمريكي المتزايد في الملف السوري والتقارب الأخير بين أنقرة وموسكو من جهة، وأنقرة وطهران من جهة أخرى على حساب تراجع العلاقات التركية الأمريكية.
مشكلة أنقرة هي إذًا حديث الدياسبورا الأرمنية عن سقوط مليون ونصف المليون من الأرمن ضحايا الحوادث وقبول أكثر من 20 دولة بوصف ما جرى بالإبادة وقرار البرلمان الهولندي بقبول أحداث عام 1915 في شرق الأناضول بين العثمانيين والأرمن على أنها "إبادة" رغم محاولة "النأي بالنفس" التي قامت بها الحكومة الهولندية، لكن مشكلتها الأكبر هي مع عملية تفجير العلاقات التركية الهولندية الجالسة فوق صفيح ساخن منذ عام تقريبا بأكثر من اتجاه وفتح الأبواب أمام جملة من التساؤلات حول مسار هذا الملف على مستوى العلاقات التركية الغربية، وما قد تفعله إدارة دونالد ترامب في شهر أبريل/نيسان المقبل تاريخ الذكرى السنوية لأحداث ما قبل قرن، والتي تقام في العاصمة الأرمنية يريفان.
مرة أخرى يبرز إلى العلن أن المحاولات التركية بهدف امتصاص التوتر مع يريفان التي تمت في العقد الأخير سواء عبر الترويج للغة الاعتدال والانفتاح التي انتشرت في أوساط المثقفين ورجال الأعمال الأتراك، والمطالبة بقراءة أكثر واقعية وبراجماتية لملف عمره أكثر من قرن كامل والجهود التي بذلها الرئيس التركي الأسبق عبد الله جول باتجاه تحسين العلاقات مع الجار الأرميني، ومحاولات تحطيم جدار الخوف وعقدة الانتقام والعمل على بناء نظام علاقات ثنائية جديدة خصوصا أن تركيا تعترف بأرمينيا لكنها لا تقيم معها علاقات دبلوماسية؛ بسبب أزمة قره باغ والحرب الأرمنية ـ الأذرية، ودخول أكثر من لاعب إقليمي ودولي على خط الأزمة في السر والعلن لمصالحة البلدين وتفاؤلات تدشين كنيسة «أكدمار» الأرمنية التاريخية في شرق تركيا، عام 2009 كبادرة حسن نية جديدة نحو أرمن العالم يبدو أنها وصلت كلها إلى طريق مسدود في فبراير عام 2015، ومع إعلان أرمينيا انسحابها من آلية المصادقة على الاتفاقات التاريخية التي كانت وقعتها عام 2009 مع تركيا، وتـأكيدها ”انعدام الإرادة السياسية” لدى أنقرة في تطبيع علاقاتها معها.
القرار الهولندي يعكس مرة أخرى حقيقة وجود رغبة أوروبية مشتركة بضرورة تسوية الموضوع الأرمني بين أنقرة ويريفان قبل قبول تركيا في العضوية الكاملة للمجموعة. لكنه أيضا يحرك الرماد، ليس تحت بؤر التوتر في العلاقات التركية الهولندية وحسب، بل فوق نار العلاقات التركية الأرمنية التي يحاول الأتراك إخمادها فيما يتمسك الكثير من القوى الإقليمية والدولية بلعبها كورقة ضغط سياسي واقتصادي وتاريخي ضد تركيا.
قبول حوالي 20 دولة، من ضمنها فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، و42 ولاية أمريكية إلى جانب موقف الفاتيكان والبرلمان الأوروبي للأحداث عام 1915 على أنها إبادة أرمنية يعني بشكل أو بآخر، مشكلة جديدة تضاف إلى سلسلة التوترات التي تشهدها تركيا مع جيرانها الأوروبيّين في مرحلة تحاول خلالها أنقرة رسم نفوذها الإقليمي والشرق أوسطي الجديد.
كيف ستقطع أنقرة الطريق على ارتفاع عدد العواصم والمنظمات والتكتلات الدولية التي تقف إلى جانب الدياسبورا الأرمنية اليوم؟ هل يكفي استدعاء الدبلوماسيين لتقديم الاحتجاجات؟ وهل يكفي الرد في التنقيب بالأرشيف للكشف عن أفعال الآخرين للرد عليهم؟ أم أن أنقرة تحتاج فعلا إلى سياسة جديدة تزيل من خلالها هذا التوتر المتزايد في علاقاتها ليس مع أرمينيا وحسب، بل مع الكثير من عواصم العالم؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة