لا يمكن لصناع الصراع أن يكونوا وسطاءه، ولا يمكن للقاتل والمحرض والمستفيد والمستغل للصراع الدموي أن يسطّر حروف اتفاق سلام
عملية الوساطة المسماة بالروسية-التركية هي أعجب وأغرب مسرحية وساطة لسبب واحد بسيط، وهو أن الداعى إليها لا يمكن أن يكون وسيطا!
اتفاق موسكو حتى لو وقّع، فإنه لا يمكن له أن يصمد قبل جفاف حبر التوقيع عليه، لأن خلفه وأمامه دماء كثيرة!
باختصار روسيا موجودة في الأزمة الليبية من خلال صفقات السلاح والمرتزقة واحتمالات الغاز، وتركيا موجودة لأنها تعبر عن مصالح جنون «أردوغان»، الممزوج بعطش الغاز، ودعم الإخوان، ومسايرة قطر، ودعم الإرهاب للإضرار بمصر، وهذا هو المستتر الواضح بين سطور الاتفاق التركي-الليبي الفاقد للشرعية.
إذن، الروسي ليس وسيطاً، والتركي -بالضرورة- طرف مدمر متسبب في علو منسوب التوتر ووصول الأمور إلى حافة الهاوية ليس في ليبيا فقط، ولكن في شرق المتوسط وشمال أفريقيا ودول الساحل وجنوب أوروبا في آن واحد!
تعريف الوسيط في الموسوعات السياسية هو:
يأتي تعريف الوسيط من تعريف الوساطة، وهي عملية سلمية تقوم على الحوار لفض المنازعات بين الأفراد أو الهيئات أو الدول.
وتعد الوساطة إحدى وسائل التوفيق بين متخاصمين عن طريق التدخل من قبل طرف ثالث يكون مقبولاً من الطرفين ويتدخل بطلب منهما أو يعرض التدخل للتسوية ويقوم الطرف الثالث بتقديم اقتراحات مناسبة ترضي الطرفين دون ضغط أو إكراه حتى يصل لحلول مناسبة ترضي الطرفين.
القصة في ليبيا بسيطة ومعقدة في آن واحد إذا ما أراد وسيط عادل ومحايد التدخل!
تصبح المسألة بسيطة إذا أردنا أن تدار ليبيا بواسطة دولة وطنية ذات سيادة واستقلال لها رأس واحد وحكومة منتخبة وبرلمان شعبي وجيش وأمن وطني، وليس مجرد مجموعة مليشيات عميلة يؤمنون بالإرهاب التكفيري زُرعوا من أجل الإضرار بجيران ليبيا.
وتصبح المسألة معقدة إذا كنا نريد إنهاء مشروع الدولة الوطنية من خلال مليشيات إرهابية تدعمها قواعد دول أجنبية ومرتزقة أجانب.
في ليبيا مليشيات تقدر بـ60 ألفاً ومرتزقة بـ20 ألفاً و20 مليون قطعة سلاح، وفكر إرهابي يبدأ من داعش للقاعدة، ومن جبهة النصرة إلى الإخوة، ومن كُتب «الجهاد» إلى كتب تدعو إلى «التوحش» في إبادة «أعداء الأمة من الكفرة الذين لا يطبقون شرع الله، وإن نطقوا بالشهادتين»!
لا يمكن لصناع الصراع أن يكونوا وسطاءه، ولا يمكن للقاتل والمحرض والمستفيد والمستغل للصراع الدموي أن يسطّر حروف اتفاق سلام وتسوية سياسية نهائية وعادلة.
من هنا أفهم وأقدر موقف كل من المشير «حفتر» والأستاذ عقيلة صالح في التشكك والتدقيق في بنود مسودة الاتفاق الفخ في موسكو.
ومن هنا أيضاً أفهم موافقة «السراج» ورفاقه الفوري على بنود مسودة الاتفاق وتوقيعهم عليه، لأنه -من وجهة نظرهم- اتفاق إنقاذي يعطيهم «قبلة الحياة» بعد تدهور موقفهم العسكري في ساحة قتال مدينة طرابلس.
ومن هنا أفهم شعور التركي بالمأزق الذي وضعه فيه «أردوغان» بعدما اكتشف الرفض الأوروبي الكامل للاتفاق الموقع بينه وبين «السراج»، فهو اتفاق هزلي من حكومة فقدت شرعيتها في 17 ديسمبر الماضي تتحكم -فقط- في نصف مدينة طرابلس، بلا جيش ولا برلمان.
وأيضاً هو اتفاق رفضه الأمين العام للأمم المتحدة بشكل صريح وواضح.
إذن، ما المطلوب من جولة وساطة موسكو المزعومة؟
أن يكون هناك اتفاق وقع بين طرفي الصراع تدخل به روسيا وتركيا في اجتماع برلين الخاص بليبيا يوم 19 من الشهر الحالي يمكن البناء على أساسه وخلق أمر واقع جديد يقبل بالوجود التركي.
هذا الوجود مخاطره 3 :
1- تهديد السيادة الوطنية من خلال اتفاق فاقد الشرعية.
2- تهديد الأمن القومي لليبيا وتهديد الأمن القومي لجيرانها من خلال قيام القاعدة الليبية بإدارة مليشيات التكفير لأعمال في المنطقة بحيث تصبح ليبيا هي سوريا شمال أفريقيا!
3- السطو الأحمق غير المشروع على الغاز والنفط الليبي وتهديد خطوط المساحة البحرية المشروعة لدول شرق البحر المتوسط من اليونان إلى قبرص، ومن لبنان إلى إسرائيل وصولاً إلى سوريا ومصر.
حوار موسكو يراد منه تأكيد أن روسيا هي الفاعل الأكثر تأثيراً في منطقة المتوسط بالتدريج، بدءاً من سوريا وصولاً إلى ليبيا.
حوار موسكو هو محاولة إنقاذ ماء الوجه لأردوغان بعد تورطه في مغامرة غير محسوبة ومحاولة تمرير وجوده غير المشروع في ليبيا.
ما لم يحرزه «أردوغان» بالقتال في ليبيا يريد الحصول عليه في موسكو الآن وبرلين لاحقاً.
تحت شعار هذه الوساطة المزعومة يأتي السؤال العظيم: هل تصلح تركيا أن تكون وسيطاً؟ وهل تركيا دولة جارة لليبيا ذات حدود مشتركة؟ وهل تركيا دولة شمال أفريقية؟ وهل تركيا دولة عربية؟ شيء مذهل يتحدى العقل!!
التاريخ يقول إن تركيا دولة ذات أطماع ومحتلة لليبيا منذ عهد ما قبل الخلافة العثمانية حتى الاحتلال الإيطالي 1911!
الوضع في ليبيا لا يمكن تمريره أو تسويقه في موسكو دون الإجابة المباشرة والصريحة والقاطعة للإشكاليات التالية:
1- وجود مليشيات في ظل وجود جيش وطني.
من هنا لا يمكن قبول مشروع دولة وطنية في ظل وجود هذه المليشيات.
2- سلاح المليشيات والسؤال عن مستقبله وعن الجهة التي سوف يسلم لها والخوف من التحايل بتسليم السلاح المليشياوي من مليشيا إلى أخرى أو تخزينه عن بعد أو تسليمه لوزارة الداخلية الحالية التي يديرها الآن مليشياوي!
هناك فارق جوهري بين «الضحك على الذقون» تحت شعار إيقاف النار إلى أجل غير مسمى، وتقديم تسوية حقيقية تصنع الدولة الوطنية وتمنع ازدواجية السلطة وثنائية السلاح وتبعية الهوية الوطنية للخارج.
أخطر ما أزعج «أردوغان» أنه كان يعتقد أن مصر المنشغلة بشؤون ترتيب بيتها من الداخل اقتصادياً واجتماعياً والتي تحارب الإرهاب التكفيري في سيناء، أنها سوف تغمض عيون جيشها عن موضوع الوجود التركي في طرابلس.
غواصات ومقاتلات، وحاملات طائرات مصر، كانت رسالة واضحة من الرئيس السيسي وجيش مصر وشعبها بأنه لا تنازل عن حماية الأمن القومي المصري مهما كان الثمن.
من هنا كان اللجوء التركي للشريك الروسي في تحالف: موسكو، أنقرة، طهران لشؤون سوريا والمنطقة من أجل إعادة تأهيله.
باختصار، اتفاق موسكو حتى لو وقع، فإنه لا يمكن له أن يصمد قبل جفاف حبر التوقيع عليه، لأن خلفه وأمامه دماء كثيرة!
نقلاً عن " الوطن المصرية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة