تركيا في 2022.. انفتاحات إقليمية جديدة
من "صفر مشاكل" مرورا بـ"أزمات مع الجميع" إلى العودة تدريجيا للانفتاح والتهدئة، تحولات جذرية شابت سياسة تركيا الخارجية خلال العقدين الأخيرين.
تلك السياسة الخارجية التركية والتي بدأت بـ"صفر مشاكل مع الجيران"، في الفترة بين عامي 2003 و2012، تحولت إلى "مشاكل مع الجميع"، قطعت فيها تركيا علاقاتها مع إسرائيل ومصر ودول أخرى، وهددت دولا أخرى بينها أرمينيا وسوريا واليونان وفرنسا، حتى إن ألسنة اللهب طالت دولا خليجية.
إلا أنه في عام 2013، كانت السياسة الخارجية التركية على موعد مع مبادئ جديدة، أعلنها وزير الخارجية التركية -آنذاك- أحمد داود أوغلو، في مقالته التي نشرتها بمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، قائلا إنها ستكون تحت عنوان ''سياسة صفر مشاكل في المرحلة الجديدة'' مع دول الجوار، ضمن ما وصفه بـ"سياق عملية التغيير الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا".
6 مبادئ
سنوات خلت بعد هذه المقالة، لم ترفع فيها السياسة الخارجية التركية هذا الشعار ولا تلك المبادئ الستة التي أعلنها أوغلو -آنذاك- والتي تضمنت: التوازن في معادلة الأمن والحريات، صفر مشاكل مع دول الجوار، سياسة خارجية متعددة الأبعاد، سياسة إقليمية استباقية ونشطة، أسلوب دبلوماسي جديد ودبلوماسية إيقاعية".
إلا أنه بعد تنحية تركيا سياستها التي وصفها داود أوغلو بـ"المتوازنة" جانبا، يبدو أن أنقرة بدأت تتحسس الطريق مجددًا إلى "صفر مشاكل"، فبدأت في أواخر العام الماضي (2021) وطيلة أشهر العام الحالي، في إعادة أواصر العلاقات التي "شرذمتها" الخلافات، وبدأت في تغيير نهج وعقلية سياستها الخارجية.
فلم تعد المشاكل المزمنة تهيمن على أجندة السياسة الخارجية التركية مع الدول المجاورة لها، والتي استنفدت طاقاتها في علاقاتها الدولية والإقليمية، وبدأت أنقرة شيئًا فشيئًا في إزالة العقبات دون النظر إلى مصادرها والتي كانت تعيق اندماجها مع جيرانها، رافعة شعار "لا لحواجز جديدة تؤدي إلى تقسيم مجتمعات منطقتنا".
فماذا فعلت تركيا في هذا الاتجاه؟
آخر خطوات تركيا في هذا الاتجاه، كانت "مصافحة المونديال" بين الرئيسين المصري عبدالفتاح السيسي والتركي رجب طيب أردوغان، على هامش افتتاح مونديال كأس العالم، أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
مصافحة قال عنها البلدان في بيانات لاحقة إنها خطوة على طريق تطبيع العلاقات التي تأزمت بعد ثورة شعبية في 2013 أطاحت بتنظيم الإخوان "الإرهابي"، وأقصت آماله في ترسيخ حكمه على أكبر البلدان العربية من حيث عدد السكان.
ومرت العلاقات المصرية التركية منذ تلك اللحظة (يوليو/تموز 2013) بالعديد من المحطات التصعيدية، على خلفية دعم تركيا لتنظيم الإخوان، بعد لجوء قياداته إلى إسطنبول، إثر الإطاحة برئيسهم محمد مرسي من على سدة الحكم، عام 2013.
التطبيع مع مصر
ورغم أن عام 2013 شهد بداية توتر العلاقات المصرية التركية، واستدعاء أنقرة سفيرها في القاهرة، في خطوة ردت عليها مصر بالمثل، وصولا إلى اعتبار الطرفين سفير كل منهما لدى الآخر شخصاً غير مرغوب به، إلا أن سفارتي البلدين لم تغلقا أبوابهما، واستمرت بالعمل بمستوى تمثيل منخفض.
عدم غلق سفارتي البلدين أو سياسة "الباب المفتوح" كانت مؤشرا على عزم البلدين التراجع عن خطواتهما التصعيدية، إلا أن القرار كان مؤجلا إلى حين، لتمر أعوام شهدت فيها العلاقات بين البلدين تصريحات تدعو للتقارب وأخرى ترفض ذلك.
إلا أن عام 2021 شهد إعلان أنقرة نيتها إرسال وفد رسمي رفيع المستوى يضم نائب وزير الخارجية التركي إلى القاهرة، لإطلاق مفاوضات تهدف إلى تطبيع العلاقات بين البلدين، لترفع الفترة اللاحقة شعار "التطبيع قادم لا محالة"، توجت مؤخرًا بـ"مصافحة المونديال"، وقمة الـ45 دقيقة، وما أعقبها من تصريحات وصفت بـ"الإيجابية" على طريق "تطبيع" علاقات البلدين.
آخر تلك التصريحات، ما صرح به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، من أن عملية بناء العلاقات مع مصر ستبدأ باجتماع وزراء من البلدين وإن المحادثات ستتطور انطلاقا من ذلك.
"التطبيع" مع سوريا
ومن مصر إلى سوريا، كانت العلاقات التركية السورية على طريق "التطبيع" كذلك، بعد سنوات من التوتر بين البلدين، بدأت في أعقاب الأحداث التي وقعت في سوريا.
فقبل اندلاع أحداث 2011 في سوريا، كانت تركيا حليفاً اقتصادياً وسياسياً أساسياً لدمشق، عبر علاقة صداقة، جمعت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظيره السوري بشار الأسد، إلا أن العلاقة بين الطرفين "انقلبت رأساً على عقب" مع بدء أحداث 2011، والتي دخلت أنقرة على خطها، داعية حليفتها إلى إجراء إصلاحات سياسية.
تلك الدعوة والتي لم تجد استجابة سورية حينها دفعت تركيا للتصعيد ومطالبة الأسد بالتنحي "منعاً لإراقة الدماء"، تصاعدت وتيرتها في مارس/آذار 2012، بإغلاق تركيا سفارتها في دمشق، في محطة تبادل بعدها الرئيسان الاتهامات.
وما إن أغلق باب الحوار بين الصديقين القديمين، حتى قدمت تركيا دعماً للمعارضة السياسية، وتحولت إسطنبول مقراً للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أبرز مكونات المعارضة السياسية، قبل أن تبدأ دعم الفصائل المعارضة المسلحة.
ورغم شن تركيا منذ 2016 ثلاث هجمات ضد المقاتلين الأكراد، مكنتها من السيطرة على أراض سورية حدودية واسعة، إلا أنها لم تدخل في مواجهة مباشرة مع دمشق إلا في عام 2020، بعد مقتل عدد من عناصرها بنيران قوات النظام شمال غرب البلاد.
تصعيد عسكري، رفع البلدان بعده شعار التهدئة إثر وساطة من روسيا، أعقبته مؤشرات تقارب بين الطرفين برزت في الفترة الأخيرة، أبرزها دعوة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في أغسطس/آب الماضي، إلى مصالحة بين النظام والمعارضة.
وفي 23 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وتزامناً مع تهديده بشن هجوم بري ضد الأكراد، قال أردوغان إن احتمال لقاء الأسد "ممكن"، مضيفا: "لا مجال للنقمة في السياسة، في النهاية يتم اتخاذ الخطوات في ظل أفضل الظروف".
إسرائيل.. محطة جديدة
ومن سوريا إلى إسرائيل، كانت سياسة "صفر مشاكل" على موعد مع محطة جديدة، أنهت خلالها تركيا قطيعة دامت أعوام مع إسرائيل، وتوجت بتبادل السفراء، في أواخر أغسطس/آب الماضي، بعد أكثر من أربع سنوات على استدعاء كل منهما لسفيرها.
ومرت العلاقات التركية الإسرائيلية بالعديد من المحطات والتي بدأت في يناير/كانون الثاني 2009، بانسحاب رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان من منصة منتدى دافوس السنوي، إثر انتقاده الضربات الجوية الإسرائيلية على الفلسطينيين.
وفي مايو/أيار 2010، قتل أفراد من قوات خاصة إسرائيلية تسعة نشطاء أتراك خلال مداهمة للسفينة مافي مرمرة التي كانت تقود أسطولا يحمل مساعدات لقطاع غزة، فيما خفضت أنقرة في سبتمبر/أيلول 2011، تمثيل إسرائيل الدبلوماسي في تركيا إلى مستوى السكرتير الثاني، بما يعني عمليا طرد دبلوماسيين إسرائيليين.
وفي مارس/آذار 2013 اعتذر بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك لتركيا عن "أخطاء" ربما أدت لوفاة النشطاء على متن السفينة مافي مرمرة، وفي ديسمبر/كانون الأول 2015 توصلت إسرائيل وتركيا لاتفاق مبدئي لتطبيع العلاقات بما يشمل عودة السفراء.
وفي يونيو/حزيران 2016 وقعت الدولتان اتفاقا لإعادة العلاقات بينهما، فيما عين أردوغان في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 سفيرا جديدا لتمثيل بلاده في إسرائيل، في خطوة تلاها إعلان أنقرة في يونيو/حزيران 2017، أن تل أبيب دفعت تعويضات قيمتها الإجمالية 20 مليون دولار لأسر ضحايا المداهمة الإسرائيلية لأسطول المساعدات.
إلا أن العلاقات سرعان ما تأزمت مجددا في مايو/أيار 2018، بعد أن تبادلت الدولتان طرد كبار الدبلوماسيين في خلاف بشأن قتل القوات الإسرائيلية 60 فلسطينيا خلال احتجاجات على حدود قطاع غزة، وفي ديسمبر/كانون الأول 2019 أعلنت إسرائيل معارضتها اتفاقا وقع بين ليبيا وتركيا لترسيم الحدود البحرية في شرق البحر المتوسط.
وفي محاولة لتحسين العلاقات، أطلقت تركيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 سراح زوجين إسرائيليين اعتقلا لالتقاطهما صورا لمقر إقامة أردوغان في إسطنبول، أعقبها محادثة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت وأردوغان.
وفي فبراير/شباط 2022 قال أردوغان إن بلاده وإسرائيل يمكنهما العمل معا لنقل الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى أوروبا، ليزور بعدها الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ، تركيا في مارس/آذار 2022.
وفي مايو/أيار 2022 زار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إسرائيل، لتتوج العلاقات في أغسطس/آب 2022 باستعادة البلدين تعيين السفراء.
تركيا والسعودية
العلاقات بين أنقرة والرياض شهدت أعواما من التوتر على خلفية ملفات أبرزها مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في سفارة بلاده في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018، وما أعقبه من محطات، اتهمت فيها أنقرة السلطات السعودية بالتضييق على عبور المنتجات التركية لأراضي المملكة.
إلا أن عام 2021 شهد مساعي متبادلة لتحسين العلاقات بين الجانبين، بينها إعلان أردوغان حرص بلاده على الارتقاء بالعلاقات مع السعودية، توجت باتصال هاتفي بين أردوغان والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، في مايو/أيار 2021.
تطورات أعقبها زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى الرياض العام الماضي، في أرفع زيارة من نوعها منذ أربع سنوات، كما أجرى وزيرا التجارة بالبلدين محادثات في محاولة لحل الخلافات التجارية.
وفي تطور ملفت للنظر على طريق التطبيع الكامل لعلاقات البلدين، أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يومي 28 و29 أبريل/نيسان 2022، زيارة إلى المملكة العربية السعودية، في محاولة لطي صفحة الخلاف واستعادة الدفء في علاقات البلدين.
تحركات دبلوماسية
وبعد زيارة أردوغان إلى المملكة، كانت العلاقات التركية السعودية على موعد مع تطور "هام"؛ حيث أوقفت محكمة في إسطنبول بعدها بأيام المحاكمة الغيابية لـ26 مواطنا سعوديا، متهمين بقتل خاشقجي، تلاها استقبال ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان في تركيا في يونيو/حزيران 2022، لتبدأ صفحة جديدة من علاقات البلدين.