تركيا والشمال السوري.. مساومات وخطط استعمارية
تركيا هددت طوال الشهر الماضي باجتياح المنطقة الكردية شرق الفرات، وطرد قوات الحماية الكردية، وتكرار ما جرى سابقاً في منطقة "عفرين".
منذ بدأت الأزمة السورية، وتركيا تسعى لإقامة ما يسمى بـ"المنطقة الآمنة" شمالي سوريا، تحت دعاوى مواجهة والأكراد وتكشف الممارسات التركية تجاه تلك الأزمة عن الاستراتيجية التركية بخصوص تلك المنطقة، والتي حكمت مسار علاقتها بالولايات المتحدة وروسيا وإيران، فضلاً عن علاقاتها مع التنظيمات الإرهابية المختلفة التي تحارب النظام السوري سواء ذات الصلة بداعش أو القاعدة.
وهددت تركيا طوال الشهر الماضي باجتياح المنطقة الكردية شرق الفرات وطرد قوات الحماية الكردية، وتكرار ما جرى سابقاً في منطقة "عفرين" التي هيمنت عليها وطردت القوات الكردية منها، ومارست عليها عمليات تتريك على المستويات كافة.
وساومت تركيا كلا من إيران وروسيا بتلك المنطقة في مقابل تجاوبها مع مواقف كل منهما في عناصر مختلفة في الأزمة السورية، كما ساومت بها الولايات المتحدة فيما يتعلق بمستوى العلاقات مع روسيا وإيران.
وأخيرًا تم الإعلان عن تفاهم أمريكي تركي بخصوص تلك المنطقة، حيث أعلنت تركيا أنه اتفاق بخصوص المنطقة الآمنة، وأشارت الولايات المتحدة إلى أنه ترتيبات عسكرية مشتركة داخل تلك المنطقة تمثل حلًّا وسطاً بين الطموح التركي والموقف الأمريكي المساند للأكراد.
وأعلن الجيش الأمريكي أنه تم إنشاء مركز عمليات مشترك (تركي-أمريكي) يتولى مسؤولية تلك المنطقة من خلال نقاط مراقبة ودوريات مشتركة، على اتساع المنطقة التي تسميها الولايات المتحدة "منطقة فاصلة بين الأكراد وتركيا" وتسميها تركيا "منطقة آمنة".
وقد بادرت القوات الكردية بتنفيذ الالتزامات الخاصة بها ضمن هذ الترتيبات، وقامت بسحب قواتها ما بين منطقتي رأس العين وتل الأبيض المجاورة لمناطق الانتشار التركي في الشمال الغربي لسوريا، وسلمتها لقوات محلية مدنية.
من جانبها، أعلنت الحكومة السورية رفضها هذا الاتفاق وتلك الترتيبات، وعبرت إيران عن رفض هادئ لها، وجاء الموقف الروسي لافتًا؛ حيث صرح الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" خلال لقائه مع نظيره التركي "أردوغان" مؤخرًا، بأن الاتفاق المذكور يؤكد وحدة الأراضي السورية بما يعني رضا روسيا عنه فعليا.
وبمراجعة ما أعلن من تفاصيل حول هذا الاتفاق أو الترتيبات العسكرية يتضح ما يأتي:
• أن المعطيات المتوفرة حتى الآن تكشف عن أنه تم وفق التصور الأمريكي وليس التصور التركي، وأن أنقرة خضعت للضغوط الأمريكية بهذا الخصوص.
• أنه تم رفض دخول قوات تركية منفردة للمنطقة واستبدالها بقوات عسكرية مشتركة تتولى المراقبة، وأن تسيطر القوات الجوية للتحالف الدولي -أمريكي أوروبي- بمشاركة جوية تركية على سماء وفضاء المنطقة.
• لم يتم تحديد واضح لحدود المنطقة وعمقها؛ حيث طالبت تركيا بأن تكون بعمق ما يبن ثلاثين وأربعين كيلومترا، بينما تم الاتفاق على أن تكون ما بين خمسة وأربعة عشر كيلومترا.
• أن المنطقة الأولى للفصل، الواقعة بين رأس العين وتل الأبيض، لن تكون مجال خلاف؛ حيث إن أغلبية السكان فيها من العرب. عكس المنطقة التي تليها والتي تمثل أغلبية كردية، وبالتالي سوف تواجه صعوبة فيما يتعلق باحتواء المنطقة الفاصلة للمدن الرئيسية فيها.
• سبق أن أعلنت تركيا ترتيبها لنقل السوريين الذين تقوم بإعادة تهجيرهم من أراضيها (حوالي ثلاثة أرباع مليون) إلى تلك المنطقة الفاصلة. ولا يزال الأكراد يرفضون حتى لا يتغير التركيب الديموجرافي في غير صالحهم، وهو ما تصر تركيا عليه وتتفهمه بعض الدول الأوروبية في إطار الاعتبارات الإنسانية، وبالتالي سوف تبقى هذه القضية مجال اختلاف بين الأطراف المعنية.
• كفل الاتفاق توفير منطقة فاصلة بين قوات الحماية الكردية والقوات العسكرية التي أنشأتها تركيا في الشمال السوري، وضمت إليها مجموعات من التنظيمات الإرهابية الموالية لها، وبذلك أفقد تركيا إحدى أدواتها على هذا المستوى.
وبصفة عامة، فإن الاتفاق وما يرتبط به من ترتيبات تتضمن اعتراف تركيا بالوجود الأمريكي في شرق الفرات، ويوفر الحماية للقوات الكردية التي أعدتها واشنطن لملء الفراغ عند تخفيف الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة، وإن كان من الواضح أن الانخراط الأمريكي في الشمال السوري يؤكد نوعا من المراجعة للاستراتيجية الأمريكية في سوريا، وتبلور متغيرات واضحة فيما سبق إعلانه بهذا الخصوص، وأن هذه الاستراتيجية ترتكز على تقسيم الدولة السورية، وإقامة منطقة حكم ذاتي كردية، ووفرت لها متطلبات الدولة المستقلة، وتكون شبيهة بكردستان العراق، تمتلك التأثير في تقرير مستقبل الدولة السورية والتطورات الجارية لحل الأزمة، وتوازن النفوذ الروسي وتحالف موسكو دمشق، وتحاصر النفوذ الإيراني، وتوفر الأمن لإسرائيل.
بل إن الكيان الكردي المُزمع إنشاؤه -شرق الفرات- يمكن أن يشهد تطورات جديدة في الموقف ليس داخل سوريا فقط، ولكن على اتساع الإقليم.
كما أن الاتفاق قد أعطى نوعًا من الشرعية للوجود العسكري لما يسمى بـ"قوات التحالف"، التي تشارك فيها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، والذي كان يستهدف محاربة "داعش". وترفض دمشق تمركزها داخل الأراضي السورية بذريعة حماية الأكراد، وهو ما سبق حدوثه بالعراق؛ حيث جاءت هذه القوات لحماية الأكراد لعدة شهور واستمرت هناك لأكثر من 12 عاما، وانتهت بدولة عراقية فيدرالية، يمثل الأكراد فيها رمانة الميزان.
وفي التقدير أن ما يجري في إدلب -والذي لا يتوافق مع الاستراتيجية التركية والأمريكية- هو نوع من التعبير الروسي والإيراني والسوري عن التقارب الأمريكي التركي المتصاعد، وإذا كانت الولايات المتحدة قد أضعفت المساومة التركية بالورقة الكردية، ولجم التوجه التركي لاجتياح شرق الفرات وتصفية قوات الحماية الكردية، فإن ما يحققه الجيش السوري بمساندة روسية في إدلب يُفقد تركيا المساومة بورقة التنظيمات العسكرية الإرهابية، خاصة تنظيم "فتح الشام" (القاعدة) لوقف انتشار الجيش السوري.
وهناك حديث عن تفاهمات أولية روسية تركية لإنشاء منطقة آمنة تشمل كافة محافظ إدلب، تخرج منها التنظيمات الإرهابية أو على الأقل نزع سلاحها، وتتولى إدارة مدنية مسؤوليتها مع مراقبة روسية سورية تركية مشتركة، كمرحلة أولية لوقف القتال وتأمين الحدود التركية ووقف النزوح السكاني؛ لمواجهة المواقف الأوروبية التي تزعم الاستناد لدوافع إنسانية وربما لإعادة تسكين المهجرين السوريين في تركيا في بعض مناطق المحافظات، وهو أمر إذا تم إنجازه لا يحقق التهدئة في إدلب وحدها، ولكن سيكفل تأمين شمال حلب وحماة وريف اللاذقية، ويفتح الطرق الرئيسية بين تلك المحافظات، وهو أمر ينعكس إيجابا على الدولة السورية.
هكذا نرى أن الموقف في الشمال السوري يمتلئ بالأحداث والتطورات، وتتفاعل فيه أجندات إقليمية ودولية متعارضة ومساعي كل منها لامتلاك أوراق ضغط ومساومة، ومحاولة أطراف متعددة منع الحكومة السورية الحفاظَ على وحدة وتماسك الدولة واستعادة السيطرة على أراضيها كافة.
وأكرر: إن هذا كله يجري في ظل غياب عربي واضح سواء كان فرديا أو جماعيا، وتجاهل لانعكاسات هذا على هيكل التوازن الإقليمي والأمن القومي العربي بصفة عامة..
aXA6IDEzLjU5LjEyNy42MyA=
جزيرة ام اند امز