سيذكر التاريخ أن مواقف بعض الدول العربية، التي ساندت ما سُمي بـ"الثورة" السورية، هي الأغرب والأكثر تناقضا في تاريخ المجتمعات والدول.
فلأول مرة في التاريخ تدعم دول بالمال والسلاح حركاتٍ سياسيةً في دولة أخرى، وهي في الوقت نفسه تحارب تلك الحركات في مجتمعها، وتخشى أن تقترب من حدودها.
فالدول، التي ساندت "الربيع العربي المشؤوم" في سوريا، لم يمر هذا الربيع بها، واتخذت من التدابير ما يمنع اقترابه من حدودها، وهي ذات الدول التي رفعت شعارات الحرية والديمقراطية في سوريا، وهي لا تقبل أن تطبق تلك المعايير، أو أن يطالب شعبها بهذه الإجراءات التي تعتبرها "غريبة" عن ثقافتها، مدمرة لنسيجها الاجتماعي، مهددة لأمنها واستقرار نظامها وتماسك مجتمعها.
أكثر من عشر سنوات تدور رحى التدمير المادي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني في سوريا على يد جماعات إرهابية، ومليشيات طائفية تحركها طموحات دول إقليمية تسعى لاستعادة خيالات تاريخية طائفية تكفيرية أو عرقية استعلائية، والضحية الأولى والأخيرة هي سوريا الشعب والدولة.
وبعد أن ظهر جليًّا استحالة تحقيق تلك "الأحلام الطائفية والعنصرية الاستعلائية" بدأ البعض يعود إلى منطق العقل والرشد، ويعاود التواصل مع مَن كان يرفض حتى مجرد احتمال التواصل معه.
وفي 19 أغسطس 2022 أعلن الرئيس التركي أنه ليس من المستبعد الحوار مع سوريا، وأنه يرغب في صنع السلام والتواصل الدبلوماسي مع "النظام السوري"، وبعدها تم الحديث عن الشروط الخمسة المتبادلة للحوار الدبلوماسي بين سوريا وتركيا، حيث وضع كل منهما خمسة مطالب لإغلاق الملف، والعودة إلى العلاقات الطبيعية بين البلدين، وكان من المطالب السورية من تركيا مطلب لا بد من الوقوف عنده، والتأمل بعمق في دلالاته ومراميه، وهو المطلب الرابع من الجانب السوري، والذي ينص على "مناقشة الدعم المطلوب من تركيا لإعادة قبول سوريا في جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والمؤسسات والمنظمات الدولية المماثلة، والذي تم تعليقه".
والغريب في هذا البند من المطالب السورية هو تضمين "جامعة الدول العربية" بين المنظمات، التي تطلب دعم تركيا لعودة سوريا إلى مقعدها فيها بعد أن تم تعليقه، لأن الجامعة العربية هي المنظمة الوحيدة من كل المنظمات التي تم النص عليها، والتي لا تملك تركيا صوتا فيها، لأنها ليست بالأساس دولة عربية.. فلماذا يطلب النظام السوري من تركيا دعم عودته للجامعة العربية؟
الإجابة بكل تأكيد أن للنظام التركي تأثيرا في الدولة، أو الدول المتعنتة، والرافضة لعودة سوريا لمقعدها في الجامعة العربية قبل أن يتحقق حلمها المستحيل في تغيير النظام بالقوة عبر تلك عصابات إرهابية حوصرت في إدلب.
لقد مثّل تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، وهي من الأعضاء المؤسسين لها، سابقة تاريخية تستحق الدراسة المعمقة، لأن هذا التعليق تم بناء على دوافع سياسية، وليس أسانيد قانونية، وظل هذا التعليق ساريا بفعل ضغوط دولة واحدة أو أكثر، لأن تلك الدول لا تعرف كيف تخرج من الموقف بعد أن دخلت فيه، ولا تستطيع اجتراح حلول تحفظ ماء وجهها، وفي الوقت نفسه تستجيب للمتغيرات الحادثة في الوضع الميداني على الأراضي السورية، والتي تسعى لحماية سوريا من الذوبان في مشروع طائفي يوشك أن يعيد المنطقة ألف سنة إلى الخلف.
لقد كان الموقف المصري -بعد سقوط حكم "الإخوان"- وأيضا موقف الإمارات، الوحيدين اللذين أدركا خطورة استمرار الوضع في سوريا، بعد أن ظهر جليًّا انتقال الانتفاضة الشعبية من مطلب جماهيري إلى حالة حرب أهلية تديرها جماعات دينية متطرفة حوّلت الأرض السورية إلى صراع مذهبي طائفي قد يشعل المنطقة، ويقضي على الدولة السورية، ولذلك اتخذت مصر موقفا حاسما يدعو للحفاظ على وحدة سوريا الأرض والشعب، والحفاظ على مؤسسات الدولة، والحفاظ على الجيش السوري، وسارعت الإمارات مبكرا بالانفتاح المحسوب والحكيم على الدولة السورية من الأبواب الإنسانية والاقتصادية التي تتعلق مباشرة باحتياجات ومصالح الشعب السوري.
ويظل السؤال معلقًا: هل ستعود سوريا إلى الجامعة العربية بعد أن أعلن النظام التركي انفتاحه عليها وعودة حواره معها واستعداده لصنع السلام مع نظامها؟
هنا ستكون الإجابة أشد مرارة في كلتا الحالتين، سواء بالنفي أو بالإيجاب.. فإن عادت فهذا دليل على اختراق النظام العربي وتبعيته للقوى الإقليمية من خارجه، وإن كان بالنفي، فهذا يعني الاستمرار في حالة انعدام الواقعية السياسية، والإغراق في الأحلام والتفكير الغرائزي، الذي تتحكم فيه غرائز الانتقام والتشفِّي، وهذا بدوره يعني انعدام النضج السياسي، الذي ينذر بعواقب أشد خطورة في قضايا أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة