قرأت يوما في رواية أجنبية أن "حيوات البشر تتقاطع مع بعضها، فالموت يأخذ أحدا ويترك آخر، وبين هذا وذاك تتغير أقدار الناس".
بدأت حكاية إيمان مرسال، كاتبة "في أثر عنايات الزيات"، مع عنايات الزيات نفسها حينما صادفت رواية "الحب والصمت" لكاتبة لم تسمع عنها في حينها من قبل.
بعد قراءتها -ولسبب غير معلوم في هذا الوقت- قررت "مرسال" البحث وراء الكاتبة.
إيمان مرسال تؤكد لنا فكرة أن الحيوات متقاطعة، أن كل الحيوات متشابكة، يمر الموت بأحدنا ويترك الآخر فتتغير حياته.. ويأتي ثالث ليكمل مسيرة مَن مات ويقتفي أثره.
ليس بيننا من يعيش منفردا لا تتقاطع حياته مع مَن سبقوه أو مَن يأتون بعده ولا يتأثر بالمحيطين.
رغبة إيمان مرسال المحتدمة في اقتفاء أثر عنايات الزيات -الكاتبة صاحبة الرواية الواحدة التي قررت الانتحار قبل نشر روايتها تلك- لم تكن لأنها الكاتبة الأعظم، ولا لأن روايتها أرقى ما في الأدب.. كان ذلك بسبب تلاقي الأرواح.
شيء ما جذب إيمان لعنايات.. بحث مستمر ومجهود مُضنٍ لا يؤتي ثماره إلا في وقته المناسب، لا يثمر حتى حينما خططت له إيمان أن يثمر.
تتعرف إيمان مرسال على نفسها من جديد في رحلتها لاستكشاف حياة عنايات وموتها.
رواية "الحب والصمت" بعبارات إيمان مرسال: "هزت (كيانها)، ولا يعني ذلك أنه عمل أدبي غير مسبوق أو أنه أفضل ما قرأت، إنها الصدف العمياء التي تبعث رسالة تساعدك على فهم ما تمر به... الامتنان ليس للأعمال العظيمة فقط، بل للتي دورها عظيم في فهم أنفسنا".
شيئا فشيئا في رحلة البحث والتعرف على المحيطين بعنايات وإجراء مقابلات معهم وقراءة ما تركته، تشعر إيمان أنها تمر بالمراحل نفسها، تشعر بما شعرت به عنايات بالضبط.. تعرف أن شيئا ما بروحَيْهما متشابه.
تشابهت إيمان مع عنايات في لحظات معينة من حياتها. سردت ذلك بالتفصيل في حكايتها عن زيارة عنايات مستشفى "بهمن" للصحة النفسية لآخر مرة قبل وفاتها في خريف عام 1962، حيث كانت "تشعر أنها خيال مآتة، تهتز يداها وهي تمسك كوب القهوة، لم تفلح المنومات في هزيمة الأرق".
ثم تعود إيمان لتتحدث عن نفسها حينما قطعت رحلة البحث لظروف ما، ثم نقلت حياتها لبيت جديد كانت تعيش وحيدة فيه، فتقول عن نفسها: "عشت في خريف 2017 مثل خيال مآتة، تهتز يداي وهي تمسك كوب القهوة... لم تُفلح المنومات في هزيمة الأرق، والأسوأ من ذلك العودة للطبيب النفسي كل أربعاء".
تتكرر المشاعر نفسها والتجربة ذاتها، رغم مرور أكثر من 40 عامًا.
كانت عنايات الزيات تعمل في المعهد الألماني قبل وفاتها، وكانت مهتمة بشخصية عالم مصريات اسمه "كايمر"، حتى إنها أرادت أن تكون روايتها الثانية بعد "الحب والصمت" عنه، لكن لم تمهلها الأقدار.
وبعد نحو 40 عاما تقابل إيمان مرسال موظفة في المعهد نفسه تسمى "إيزولدا" تهتم بالعالم نفسه وتتبع خطاه وتفاصيل حياته وتُفتن بطريقة تجميعه لكتبه. ومن معرفة إيمان، التي كوّنتها عن شخصية عنايات، تعتقد أن تلك التفاصيل، التي فتنت "إيزولدا" في كايمر "هي نفسها ما فتن عنايات".
تأتي "إيزولدا" لتكمل ما نوت عنايات أن تبدأه ولم تفعل. وفي أثناء ذلك ترى إيمان مرسال رواية عنايات الزيات فتنجذب لحياتها وتقرر البحث عن أسباب انتحارها.
تبدأ إيمان بالبحث عن مكان دفن عنايات، وتدخل المدفن بالفعل، فلا تهتدي لمكان الحجرة المدفونة فيها عنايات، لا تتوقع أن تجدها في غرفة الخدم والمنبوذين من العائلة بسبب انتحارها، فلا تجدها إلا بعد سنوات.
في هذه السنوات يتحقق الهدف من رحلة البحث كلها، وهو أن تتعرف إيمان على نفسها من جديد وتقترب من ذاتها بالاقتراب من حياة عنايات.. كأنها ترى حياتها ومشاعرها على شاشة.
"في أثر عنايات الزيات".. سردية فريدة من نوعها وتجربة حياتية استغرقت سنوات وتطلبت بحثا وتقصّيًا وفكرا وعوامل نفسية عديدة حتى تكتمل.. إيمان مرسال نجحت بجدارة في إغراق القارئ داخل تفاصيل رحلة بحثها وربطه بالرحلة، كما لو كان يقوم بها بنفسه. كما أنها نجحت في فتح آفاق جديدة له ليتعرف أكثر على أعمال وشخصيات وحقائق ارتبطت برحلة البحث.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة