أشاع اتفاق يوليو الماضي بشأن فك الحصار عن تصدير الحبوب من مواني البحر الأسود برعاية الأمم المتحدة لوقف تداعيات أزمة الغذاء العالمية، مُناخَ تفاؤل بإمكانية البناء عليه وتوسيع الجهود الدبلوماسية الدولية.
وذلك لفتح مسارات تفاوضية، أملا في إنهاء النزاع الروسي الأوكراني.
القمح يمثل الشريان الأكثر حيوية لضخ الدم في عروق العالم. توحّدت عند هذا المسار جميع التوجهات على اختلاف غاياتها وأساليبها. التقت كلها على وِحدة الهدف، المتمثل في تقليل الأضرار عن الناس كلهم على امتداد المعمورة.
تراجعت السياسة وحساباتها عندما طالت ظروف النزاع لُقمة الخبز وحاجة الفقير والغني لها بالمقدار ذاته.. أعادت الدول المنخرطة في النزاع بشكل مباشر، روسيا وأوكرانيا، وتلك التي تغذّيه بإسناد عسكري وسياسي واقتصادي متعدد الوجوه، الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي، قراءاتها، كلٌّ حسب دوافعه وغاياته وحاجاته عندما تعلق الأمر بالضرورة الملحة لمنع الانزلاق إلى مجاعات عالمية بسبب شُح واردات القمح من طرفي النزاع، وما قد يحمله من انعكاسات مباشرة آخذة في التوسع على دولهم وعلى مجتمعاتهم، فضلا عما يمكن أن تخلفه من متاعب إضافية على اقتصاداتهم، التي لم تتعافَ غالبيتها بعدُ من تبعات جائحة كورونا.
دفع نجاح "دبلوماسية القمح" إلى حيز التفكير إشكاليةَ الأدوار التي يمكن أن تؤديها هذه الدولة أو تلك بين الأطراف المتنازعة ومدى قدرتها على التأثير في تغيير اتجاه النزاعات، وأهمية تعزيز دور المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، في الحد من مخاطر الصراعات، بحكم أن المتضرر الأوحد جراءها هو الإنسان.
للنزاع الروسي-الأوكراني حيثيات متراكمة تاريخية وجيوسياسية ونفسية تتجلى اليوم بشكل صارخ في الاستقطابات العالمية، التي فرضها، وفي التداعيات الأمنية والاقتصادية التي تظهر تباعًا على مستوى القارة الأوروبية وعلى العالم.
يلتقي غالبية الخبراء والاستراتيجيين عند فرضية بروز خارطة توزيع جديد للجغرافيا السياسية في أوروبا تلي يوم وقف إطلاق النار، وقد تتجاوز حدود القارة إلى فضاءات بعيدة تلوح نُذُرها في غير مكان، مثلما سترسم تلك النهاية، غير الواضحة حتى الآن، معالم خطوط التماس بين القوى المرشحة لأن تكون طرفا هنا أو قطبا هناك.
هل يجوز الجزم بأن الدبلوماسية وحدها أنجزت اتفاق الإفراج عن بواخر القمح من مواني البحر الأسود؟ أم أن ثمة عوامل تضافرت ومنحت الدبلوماسية التركية صك صدارة الإنجاز؟
تعود العلاقات الراهنة لأنقرة مع كل من كييف وموسكو إلى نحو ثلاثة عقود من الزمن، حين استقلت أوكرانيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وحافظت تركيا خلالها على معادلة محكمة من توازن المصالح مع الجانبين حتى الآن، لكن تفجر النزاع بين روسيا وأوكرانيا شكّل تحديا استراتيجيا لتركيا بحكم التداخل السياسي والعسكري والاقتصادي، والجغرافي البري والبحري، معهما من جانب، وعضويتها في حلف "الناتو"، حيث تمثل ذراعه الجنوبية من جانب آخر.
استثمرت دبلوماسية تركيا فيما يحقق مصالحها وامتنعت عن أن تكون طرفا تحريضيا لأحد ضد آخر. التقطت فرصة تكثف سحب الحاجة ونذر المجاعة التي تطرق أبوابها وأبواب العالم فأعادت إحياء دورها التفاوضي لفك أسر بواخر القمح، متسلحة بإجماع دولي ودعم أممي لجهودها، ومعه أعادت إلى الأذهان أن دورها كوسيط لحل النزاع لا يزال مقبولا.
بعض محطات النزاع باتت تنذر باحتمال حدوث تطورات ميدانية- عسكرية، إما أنها غير محسوبة، وإما أنها تدخل في باب التنبيه القسري للعالم من مغبة تجاهل السياق الدبلوماسي وإهماله، وخطورة ترك الساحة لسجال المدافع والطائرات والقذائف العمياء، التي قد تفتح أبواب الجحيم على أكثر من صعيد، كما حدث في محيط محطة زاباروجيا النووية.
يوما بعد آخر تتأكد الحاجة إلى إطلاق مسار دبلوماسي يتساوق مع مجريات النزاع الميداني المتأرجح بين الطرفين، درءا لمخاطر أكبر على أوروبا وعلى العالم.
الثغرة التي فتحتها الدبلوماسية بشأن إمدادات القمح للعالم تمتلك مقومات اعتمادها للخوض في مسار أوسع يشمل القضايا الخلافية التي فجرت النزاع بين موسكو وكييف، ومع أن العقبات أمامها كثيرة، والتعقيدات كبيرة، قياسا بحجم حسابات الكبار وطموحاتهم، فإن تركيا التي أمسكت، ولا تزال تمسك، العصا من المنتصف مع الأطراف المتنازعة، تحتاج إلى أكثر من المبادرة، إنها بحاجة إلى تزكية دورها ودعمها من قبل حلفائها الأطلسيين أولا، لأنها تمتلك القدرة على التفاهم مع موسكو، رغم بعض التباينات التي تظهر في بعض الملفات المتشابكة بينهما، ومن بينها أوكرانيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة