تركيا وسوريا.. خطوط تقارب على مسار العودة
قطار التحول بالسياسة الخارجية التركية يتوقف هذه المرة في سوريا مبشرا بـ"علاقات مباشرة" قد تنهي عقدا من التوتر العاصف بين الجارتين.
منعطف يرتقي لأن يكون نقطة ارتكاز في سياسة بلد تشي محاولات تقاربه مع المحيط العربي بأنه يستهدف استعادة استراتيجية "صفر مشاكل" مع محيطه العربي.
فبعد سنوات من العزلة الإقليمية على خلفية تدخلات وملفات عاصفة، تخطو تركيا على طريق العودة نحو سياسة أعلنها، منذ العام 2009، رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو، تحت مسمّى "صفر مشاكل"، أي تصفير جميع الإشكالات مع الجوار والمحيط.
استراتيجية تطرح نفسها كجسر حتمي تجتهد أنقرة عبره في محاولة للقفز على الخلافات التي تسببت فيها سياساتها بالشرق الأوسط على مدار أكثر من عقد من الزمن، انقلبت خلاله سياستها إلى التدخل المباشر في شؤون المنطقة والتوجه التوسعي عبر التموضع عسكريا في سوريا وليبيا، وتوسيع وجودها العسكري القائم في شمالي العراق، فضلا عن استعداء القوى الإقليمية الكبرى.
أزمات أشعلت المنطقة ووضعتها على صفيح النزاعات والصراعات والتحديات، فاقمتها تغيرات دولية دفعت جميعها أنقرة إلى محاولة لملمة أوراقها المبعثرة خصوصا في الشرق الأوسط.
سوريا
تقارب في سماء العلاقات التركية السورية تشي بها تصريحات مسؤولين أتراك، ما يرسم بالأفق مساع مشابهة لما حصل مع دول عربية أخرى.
نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا، حياتي يازجي، أعلن أن العلاقات مع دمشق "قد تصبح مباشرة ويمكن أن يرتفع مستواها".
وفي تصريحات لقناة "خبر جلوبال" التركية، شدد نائب رئيس الحزب الحاكم الذي يرأسه الرئيس رجب طيب أردوغان، على أن "أهم خطوة لحل النزاعات هي الحوار".
وقال يازجي في تصريحاته التي طالعتها "العين الإخبارية" في وسائل إعلام تركية: "لطالما آمنت بذلك، يمكن أن يكون الصراع بين المؤسسات، ويمكن أن يكون بين العائلات، ويمكن أيضا أن يكون على نطاق دولي".
وأضاف: "إما حوار بشكل مباشر أو غير مباشر. حتى اليوم كان الحوار يتم بطريقة غير مباشرة عند مستوى محدد. واليوم ارتفع هذا المستوى بعض الشيء والمناخ الذي سيتشكل بارتفاعه أكثر في المستقبل سيساهم في الخروج من هذا المستنقع القائم في سوريا منذ 11 عاما".
وفي رده على سؤال حول إمكانية عقد لقاء على مستوى القادة بين سوريا وتركيا، لفت يازجي إلى أنه لا يستطيع أن يجزم بعدم حدوث هذا الأمر، مبينا أن الأمر "سينطلق من مستوى معين وقد يتطور مستقبلا".
مصالحة؟
تصريح يازجي جاء بعد أيام من دعوة وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إلى "مصالحة بين المعارضة والنظام في سوريا"، قبل أن يجدد دعوة مماثلة يوم أمس الثلاثاء.
وخلال مؤتمر صحفي مشترك عقده مع نظيره اللاتفي إدغارز رينكيفيش في أنقرة، قال جاويش أوغلو: "يجب أن يتصالح النظام والمعارضة. هذا ما قلته. نرى أن المصالحة ضرورية لإحلال سلام دائم في سوريا"، في إشارة إلى تصريحات مماثلة أدلى بها الخميس الماضي، وهو اليوم الذي كشف فيه عن "لقاء قصير" جمعه مع نظيره السوري، فيصل المقداد، في بلغراد.
ورغم أن اللقاء مع المقداد كان قبل عشرة أشهر، وتحديدا في أكتوبر/تشرين أول 2021، على هامش اجتماع "حركة عدم الانحياز" و"لم يكن رسميا"، إلا أنه يعتبر أول اتصال دبلوماسي بين تركيا والنظام السوري منذ 2011.
وانقطع التواصل السياسي بين تركيا وسوريا منذ آخر اجتماع عقد، في 2011، على مستوى وزراء الخارجية، وذلك خلال زيارة أجراها وزير الخارجية التركي آنذاك، أحمد داود أوغلو، إلى دمشق، عقب اندلاع الأحداث.
وحينها، التقى داود أوغلو وزير الخارجية السوري الراحل وليد المعلم، والرئيس بشار الأسد، قبل أن تنقطع العلاقات، وتتحول تركيا إلى دعم المعارضة، قبل أن تتدخل عسكريا في عام 2015.
لكن على مدى السنوات الثلاث الماضية، انحصرت ملامح الرؤية التركية بشأن الملف السوري في أهداف بمقدمتها إبعاد أي تهديد لأمنها القومي على طول الحدود مع سوريا، علاوة على "ملف اللاجئين" والمنطقة الآمنة.
كما أكدت أنقرة، في أكثر من مناسبة، دعمها لـ"العملية السياسية الخاصة بسوريا"، وتأييدها لمخرجات مسار أستانة الذي كان له الدور الأكبر في تثبيت حدود السيطرة العسكرية، بشكلها الحالي.
نحو الدبلوماسية
في فبراير/شباط 2019، قال أردوغان إن السياسة الخارجية بين تركيا وسوريا مستمرة على مستوى الأجهزة الأمنية"، مشيرا إلى أن تواصل الأجهزة الأمنية مختلف عن الزعماء السياسيين.
تصريحات أردوغان أكدت أن التعاون الأمني "غير المنقطع" بين الجانبين يشكل الخيط الوحيد في ما يمكن تسميته اتصالات بين الجارتين.
لكن مع تقلب ملامح التوازنات الداخلية والإقليمية والدولية، يبدو أن أنقرة توجهت نحو جس نبض دمشق في تطورات قد تنقل الاتصالات بين الجانبين من الاستخبارات إلى السياسة والدبلوماسية، وإن لا تبدو الطريق سهلة لتحقيق الهدف، خصوصا أن أي خطوة تركية بهذا الاتجاه قد تكلف أردوغان الكثير وهو المقبل على انتخابات مصيرية في 2023.
من جانبها، تفرض دمشق شروطا لإعادة العلاقات مع أنقرة، حيث أبدى وزير خارجيتها، فيصل المقداد، في فبراير/ شباط الماضي، استعدادا لتطبيع العلاقات "لكن وفق شروط".
وحينها، قال المقداد إن "سوريا وتركيا جيران، ويربطنا تاريخ طويل و500 سنة احتلال، تكفي حتى نفهم بعضنا".
وأضاف أن "هنالك عدة أشياء يجب أن تتحقق لتعود العلاقات السورية التركية، وهي سحب تركيا قواتها من الأراضي السورية، والكفّ عن دعم الإرهابيين وحرمان السكان السوريين من الموارد المائية، وبناء علاقات مع سوريا على أساس الاحترام المتبادل".
وفي حال عودة العلاقات، تكون تركيا خطت على مسار دولة الإمارات التي كانت سباقة في كسر عزلة سوريا وأعادت فتح سفارتها في دمشق نهاية عام 2018، كما قام وزير خارجيتها عبدالله بن زايد بزيارة إلى سوريا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، التقى خلالها الأسد.
طريق العودة
"ليست لدينا تحيزات خفية أو معلنة، أو عداوات وحسابات غامضة ضد أي أحد. وبكل صدق ومودّة، ندعو الجميع للعمل معاً من أجل بناء مرحلة جديدة في إطار الاستقرار والأمان والعدل والاحترام".
تصريحات أدلى بها الرئيس التركي، مطلع 2021، ترجمت رغبة واضحة وصريحة في تحسين العلاقات مع دول المنطقة وحتى الغرب، في محاولة لإنقاذ اقتصاد بلاده المتهاوي وتخفيف وطأة انتقاد المعارضة الداخلية لسياساته الخارجية.
كانت تلك نقطة البداية التي أعقبتها أنقرة بسيل من التصريحات حول رغبتها في فتح صفحة جديدة مع العرب وطي الخلافات وإنهاء التوتر مع مصر، قبل أن تبدأ بمحاولات لاختراق الجمود في العلاقات مع كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات.
وسعت تركيا لاستثمار المصالحة الخليجية في "قمة العلا" المنعقدة بالسعودية في يناير/كانون الثاني 2021، وبدأت بخطوات حثيثة سعيا لتجسيد التقارب.
وبالفعل، عادت العلاقات للتحسن مع زيارة أجراها رئيس دولة الإمارات، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، إلى تركيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021.
ولاحقا، وتحديدا في فبراير/ شباط الماضي، أجرى أردوغان رسمية لدولة الإمارات، كانت الأولى له منذ 2013 حين كان رئيسا للوزراء.
وفي أبريل/نيسان المنقضي، حطت طائرة الرئيس التركي في السعودية، في زيارة حملت معها صفحة جديدة من العلاقات، وفتحت آفاقا جديدة مع جيران تركيا الإقليميين.
وفي مايو/أيار من العام نفسه، أعلن أردوغان أن لتركيا قواسم مشتركة مع السعودية والإمارات، مؤكدا تجاوز الخلافات مع الدولتين.
وفي يونيو/حزيران 2022، استقبل الرئيس التركي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بمراسم رسمية في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة، وعقدا اجتماعا استغرق نحو ساعتين.
ومؤخرا، قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إن بلاده تنشد علاقات مع مصر على منوال دولة الإمارات والسعودية.
وأضاف: "دائما نقول إن بدء عملية التطبيع مع إسرائيل ومصر لا يعني الاستغناء عن مبادئنا، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والقدس".
وأعرب عن رغبة بلاده في أن تكتسب علاقاتها مع مصر الزخم نفسه الذي حصل مع دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية"، في مسار يرسم طريق عودة تركيا إلى محيطها العربي.
aXA6IDMuMTM4LjY5LjEwMSA= جزيرة ام اند امز