تعرضت الشراكة التركية الأمريكية تحت سقف حلف شمال الأطلسي منذ عام 1952 وحتى اليوم لاختبارات صعبة كثيرة.
لم يتأخر كثيرا الرد الأمريكي على إصرار أنقرة على تحريك الجيش نحو عفرين؛ للقضاء على مجموعات "قوات سوريا الديمقراطية". فواشنطن أعلنت وباسم التحالف الدولي لمكافحة تنظيم "داعش"، عن الاستعداد لتشكيل قوة حرس حدود قوامها 30 ألف مقاتل، غالبيتهم من الأكراد السوريين حلفائها على الأرض.
وبهذا السجال تكون المواجهة التركية الأمريكية المتصاعدة بسبب أكثر من ملف ثنائي وإقليمي قد انتقلت إلى مرحلة جديدة.
المفاجأة الأكبر بالنسبة لأنقرة وطهران ستكون حتما عندما يعلن الروس أن التفاهم في عفرين يشمل بقاء القوات الأمريكية هناك وتحولها إلى قوات فصل تنسق وتتعاون مع القوات الروسية لتخفيف حدة التوتر، ولكن بطابع روسي أمريكي هذه المرة.
تعرضت الشراكة التركية الأمريكية تحت سقف حلف شمال الأطلسي منذ عام 1952 وحتى اليوم لاختبارات صعبة كثيرة، كان أهمها التوتر بسبب الأزمة القبرصية في الستينيات والسبعينيات. لكن ما يجري الآن هو أزمة من نوع آخر ببُعد يطال وجودهما معا تحت سقف هذا الحلف، وصعوبة استمراره.
تركيا تقول إنه لا يمكن لحليفها المفترض "أن يقدم السلاح لأي تنظيم إرهابي يشكل تهديدا لدولة داخل الحلف"، وواشنطن تقول إن هذه الوحدات الكردية كانت أفضل من حارب تنظيم "داعش"، واستطاع طرده من أراضٍ سورية واسعة، وإنها لن تبدل في مواقفها.
قرار واشنطن دعم خطة إنشاء قوات أمن حدود شمال سوريا قابله على الفور رد الحكومة التركية باتجاهين: إعلان أنقرة أنها ستعمل ما بوسعها لمنع بناء هذا الجيش الذي يهدد الأمن القومي التركي، وتمسكها بالقول إن عملية عفرين ستتم بين ليلة وضحاها ودون سابق إنذار، وإنها لن تتراجع عنها إلا إذا حصلت على ما تريد.
مشكلة تركيا هي أولا أن القوات الكردية المحمية أمريكيا حتى ولو انسحبت من عفرين ستظل تسيطر على أكثر من 70 بالمائة من الحدود التركية السورية، وأن أزمة أنقرة ستكون في شرق الفرات وليست في غربه، حيث تتمسك واشنطن بتقديم كل أشكال الدعم السياسي والعسكري لحلفائها المحليين هناك.
يقول وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون: إن التدخل الأمريكي المباشر في سوريا سيستمر؛ لأننا "لا نقبل بأن تصبح سوريا موطئ قدم للإرهابيين لتهديدنا أو تهديد حلفائنا". لكنه لم يحدثنا عن الحلفاء الذين يقصدهم هل هم الأتراك أم الأكراد في سوريا؟.
المسألة بالنسبة لأنقرة أصبحت أبعد من موضوع تقديم السلاح الأمريكي إلى "قوات سوريا الديمقراطية"، بل بناء جيش بقيادة كردية يسيطر على مساحات واسعة من حدودها المشتركة مع سوريا والعراق، وتحتاج إلى موافقته للوصول إلى العمق العربي في الجانب الآخر.
معركة عفرين بالنسبة لواشنطن في غاية الأهمية؛ هي تريد أولا أن تقول لأنقرة إنها مواجهة تختلف كليا عن عملية درع الفرات التي خاضتها القوات التركية ضد "داعش"، وهي تريد ثانيا اختبار قدرات آلاف المقاتلين الذين درّبتهم وجهزتهم ومدى استعداداتهم للمقاومة والقتال، وتبني فكرة الجيش الحدودي الذي تعدّ له. لكنها تريد استغلال أزمة عفرين لإضعاف المواقف التركية والإيرانية في سوريا من خلال الدخول في حوار وتفاهمات مباشرة مع موسكو في مسار الملف السوري ككل.
تركيا من صوبها تريد إفهام واشنطن أنها ملزمة في جميع الأحوال بالاختيار بينها وبين القوات الكردية في سوريا، وأن عملية عفرين لن تكون النهاية، وسيتبعها معركة منبج، وربما الانتقال إلى شرق الفرات؛ لتعطيل المشروع الأمريكي في شمال سوريا مهما كان الثمن.
نقطة عالقة لا نعرف حتى الآن الكثير عنها حول احتمال أن يكون الثمن أيضاً بروز مفاجآت غير متوقعة في مسار العلاقة بين أنقرة ودمشق. وهل هناك لقاءات غير رسمية تجري بعيدا عن الأعين بين الطرفين؛ لمناقشة موضوع عفرين وشمال سوريا بتشجيع ودعم ورعاية روسية إيرانية.
سيناريو آخر قد يظهر إلى العلن في الساعات المقبلة حول احتمال طرح موسكو مشروع تسوية يُرضي الأتراك والأمريكيين، ويُبعد شبح الحرب عن المدينة. سحب مقاتلي قوات حزب الاتحاد الديمقراطي من المكان مع إبقاء حلفائهم من العشائر وتحييد المدينة عبر إلحاقها بمشروع مناطق خفض التصعيد، ودخول قوات روسية رمزية تتولى عملية المراقبة أو الموافقة على تسليمها بأكملها لقوات النظام السوري التي غادرتها بعد دخول "داعش" إليها.
الثمن الذي ستدفعه أنقرة مقابل الخطة الروسية في عفرين سيكون فتح الطريق بشكل أوسع أمام إنجاح لقاءات أستانة ومؤتمر الحوار الوطني الذي تعد له موسكو قبل نهاية الشهر الحالي، واحتمال القبول بالمجموعات الكردية المعتدلة أو من ينوب عنها في سوتشي، وتليين المواقف التركية حيال النظام في سوريا.
تسوية في عفرين من هذا النوع ستكون خدمة روسية تقدم لواشنطن أيضا بإخراج المقاتلين الأكراد المحسوبين على حزب الاتحاد الديمقراطي من عفرين دون مواجهة في بقعة جغرافية خاسرة في جميع الأحوال، لكنها ستكون مقدمة لصفقة روسية أمريكية أكبر في سوريا.
ما يدفع واشنطن للقبول بالطرح الروسي هنا قد يكون تجنيب حلفائها الأكراد مواجهة أخرى محتملة مع قوات النظام السوري، حتى ولو كان الثمن خروج موسكو وكأنها الرابح الأول في كل هذه الصفقة التي حمت من خلالها علاقاتها بقوات سوريا الديمقراطية أيضا. النقطة الغامضة هنا هي هل ستطلب أنقرة إعادة السلاح الأمريكي الثقيل المقدم إلى هذه المجموعات لواشنطن أم لا؟ وهل ستقبل الوحدات الكردية بذلك؟.
الأزمة التركية الأمريكية كانت واضحة على هامش قمة دول حلف الأطلسي الأخيرة، ومن خلال الرسائل التي وجهها قائد الأركان التركي خلوصي أكار أمام نظيره الأمريكي حول الخروج عن روح وأسُس حلف شمال الأطلسي، ومسألة تهديد دولة أطلسية لأمن دولة أخرى في الحلف. وهي كانت بارزة كذلك بعد اللقاء المنعقد في كندا، بين وزيري الخارجية التركي والأمريكي على هامش قمة الأزمة الكورية، حيث انتهى الاجتماع وكل طرف يتمسك بمواقفه.
الكارثة ستكون عند سقوط أول جندي أمريكي بنيران صديقة في عفرين، حيث لا يعرف أحد عدد الجنود الأمريكيين الموجودين هناك، وإذا ما كانوا سيغادرون المدينة في إطار الصفقة الروسية المعروضة.
المفاجأة الأكبر بالنسبة لأنقرة وطهران ستكون حتما عندما يعلن الروس أن التفاهم في عفرين يشمل بقاء القوات الأمريكية هناك، وتحولها إلى قوات فصل تنسق وتتعاون مع القوات الروسية لتخفيف حدة التوتر، ولكن بطابع روسي أمريكي هذه المرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة