ساعدت سلسلة من التطورات منذ بداية عقد تسعينيات القرن العشرين على إيقاظ العديد من الضغائن القديمة ضد الدولة التركية.
رغم الصورة البرّاقة التي تحاول النخبة السياسية الحاكمة حالياً في تركيا، والقائم فكرها ومنهجها السياسي على الأيديولوجيا الدينية في ما هو متعارف عليه في أوساط علماء السياسة في المنطقة بأنه "النسخة التركية" من "الإخوان"، أن ترسمها، وبأن الأوضاع في الداخل التركي على خير ما يرام، إلا أن ما يحدث في تركيا من أحداث أليمة، كالمحاولات الانقلابية من قبل الجيش والأعمال الإرهابية والتمرد المتواصل من قبل الأكراد، لم تعهدها في تاريخها منذ قيام الجمهورية على يد مؤسسها مصطفى كمال الملقب «بأتاتورك»، أي أبو الأتراك، تنبئ بالأخطار الجسيمة على المديين المنظور والمتوسط، خاصة على ضوء التدخل التركي في سوريا، والتهديد بالتدخل في شمال العراق.
إن تركيا تبدو الآن محيرة في سياساتها حتى بالنسبة لأبسط الأمور. وربما أنه لا يقع اللوم على الأتراك وحدهم، فالتغيرات السياسية الحابسة للأنفاس التي تمر بها المنطقة، بدءاً بسوريا والعراق، مروراً بمصر والسودان والأردن، وانتهاء بالخليج العربي، يتولد عنها تداعيات درامية تؤثر على السياسات والمواقف التركية، على الصعيدين الداخلي والخارجي.
من المتوقع أن تشهد تركيا العديد من الأحداث الدرامية، خاصة على هامش مثلث الصراع الديني -العلماني- القومي، التي ستؤثر كثيراً على أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتكشف عن أن العديد من طروحات العظمة الحالية ولعب دور القوة الكبرى إن هي إلا وهم زائل، وما تحت الرماد خطير جداً
على الصعيد الداخلي الذي نحن معنيون به في هذا المقام، ساعدت سلسلة من التطورات منذ بداية عقد تسعينيات القرن العشرين على إيقاظ العديد من الضغائن القديمة ضد الدولة التركية، فمنذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا كثفت موجة صحوة المد القومي لدى مكونات المجتمع التركي، خاصة مشكلة الأكراد أو كما يسميهم الأتراك «سكان الجبال»، والتطورات غير المسبوقة في دول الجوار التركي، وتحديداً العراق وسوريا وإيران من التململ الداخلي في المجتمع التركي، وأفرزت صراعات جديدة من المكونات والأسس العلمانية التي يقوم عليها منذ نهاية عقد عشرينيات القرن الماضي وبداية ثلاثينياته، وبين الأحزاب الدينية التي أنشئت منذ أن أتاح ذلك الدستور الذي دشن عام 1982، الذي وضع اللبنات الأولى لعودة الدين إلى الحياة السياسية، بمعنى أن يتم السماح بإنشاء الأحزاب والتجمعات السياسية القائمة على أسس دينية، أفسح الطريق أمام ظهور العديد من تلك الأحزاب كحزب «الرفاه» المنحل وحزب «العدالة والتنمية» الحاكم حالياً، ما أدى في نهاية المطاف إلى الخلخلة السياسية التي تشهدها الحياة السياسية التركية، ويُضاف إلى ذلك الآمال التي انتشت لإقامة دولة كردية جديدة تظهر على المشهد العالمي لأول مرة.
ومن جانب آخر، فإن منظومة من الإرهاصات الداخلية المعقدة المتعلقة بالعداء بين العامة والساسة العلمانيين التقليديين الذين يدعمهم الجيش، وعدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية المتنامية، والوطنية الضيقة المتمثلة في طروحات مَن يصنفون أنفسهم بأنهم العثمانيون الجدد، ساعدت على زيادة التأييد الانتخابي المؤيد للأحزاب ذات التوجهات الدينية، والطفو على السطح القضية القديمة والمؤلمة الخاصة بالعلاقة بين الدين والدولة، واضعاً إياها في قمة الأجندة السياسية للقطر، التي يتولد عنها العديد من التوترات والصراعات التي تهدد الدولة التركية ذاتها من الداخل.
إن الوضع الداخلي التركي يتأثر كثيراً بالخارج، فقد أزاحت العديد من الأحداث الكبرى كتفكك الاتحاد السوفيتي ومعه الكتلة الاشتراكية في شرق أوروبا، والغزو العراقي للكويت ومن ثم حرب تحرير الكويت، والغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، وتداعيات أحداث الفوضى العارمة التي ألمت بعدد من الدول العربية منذ عام 2010 - 2011، العديد من التهديدات الكبرى على الأوضاع الداخلية لتركيا.
لكن البعض الآخر منها ترك على أنقاضه فراغاً سياسياً جديداً في المنطقة تدهورت معه العديد من علاقات تركيا بالعالم العربي.
من المتوقع أن تشهد تركيا العديد من الأحداث الدرامية، خاصة على هامش مثلث الصراع الديني- العلماني- القومي، التي ستؤثر كثيراً على أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتكشف عن أن العديد من طروحات العظمة الحالية ولعب دور القوة الكبرى إن هي إلا وهم زائل، وما تحت الرماد خطير جداً.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة